وقّع يوم الثلاثاء الماضي وزيرا دفاع روسيا وجمهوريّة أفريقيا الوسطى اتفاقيّة تعاون عسكريّ على هامش معرض دفاعيّ قرب موسكو. ويمثّل هذا «الاتفاق الإطاري» خطوة إضافيّة في مسار تعميق التعاون بين البلدين، الذي بدأ منذ العام الماضي، ووصل إلى حدّ إسهام موسكو في توفير الأمن الشخصيّ لرئيس أفريقيا الوسطى وعقد جلسات حوار مع زعماء المعارضة والمتمردين الذين يسيطرون على أغلب مجال البلاد.خسرت روسيا حضورها الأفريقيّ بعد سقوط الاتحاد السوفياتيّ. ورغم عملها على اكتساب أصدقاء جدد في القارة خلال العقدين الماضيين، إلا أنّ جهودها كانت تصطدم دائماً بالمصالح الغربيّة المُنافسة. ولعلّ أبرز أمثلة الصدام هو تدخّل حلف «الناتو» في ليبيا عام 2011، وإسهامه الحاسم في إسقاط نظام معمّر القذافي، ما حرم موسكو من عقود شملت قطاعات الطاقة والتسليح والبنية التحتيّة.
اليوم، تعود موسكو رويداً رويداً إلى أفريقيا، من بوابات جغرافيّة مختلفة، ومناهج تعاون يتشابك فيها الاقتصاديّ بالعسكريّ، والحكوميّ بالخاصّ، مستفيدة ممّا يبدو تراجعاً للقوى الغربيّة. وتمثّل أفريقيا الوسطى الآن جبهة العمل الروسية الأبرز.
أفريقيا الوسطى:

وداعاً فرنسا؟
استقلّت جمهوريّة أفريقيا الوسطى عن فرنسا في عام 1960، لكنّ الحبل السري الاستعماريّ لم يسقط مع الزمن. استمرت فرنسا في تدخّلها الفجّ في شؤون مستعمرتها السابقة، وأسهمت في انعدام استقرارها السياسيّ المداوم، داعمة وصول جان بيدل بوكاسا إلى السلطة، ثمّ إخراجه منها، وتوجيه الحُكام اللاحقين.
اقتصاديّاً، أوصلت التطورات البلاد إلى مصاف البلدان الأقلّ نموّاً، رغم ثرائها بالطاقة والمعادن، ودخلت، سياسيّاً، في حروب أهليّة متقطّعة بدأ آخرها عام 2012 وهي مستمرة حتى الآن. لم تكن فرنسا بعيدة، حيث تدخّلت نهاية 2013، في عمليّة أطلق عليها اسم «سانغاريس»، وأزاحت الرئيس ميشيل دجوتوديا. لكن حضور باريس لم يتواصل، ولم يثبّت حلاً شاملاً في البلاد، حيث انسحبت بمجرّد انتخاب رئيس جديد، فوستين ـــ ارشانج تواديرا، وعادت المواجهات الأهليّة الدامية من جديد.
بدا كأنّ فرنسا غير قادرة على تحمّل تكلفة الذهاب أبعد من ذلك، خاصّة مع تركيزها على مقاومة الخطر «الجهاديّ» في مالي وبقيّة دول الساحل. وإذا ما كان موقف أكثر قوّة غربيّة ارتباطاً بالبلد على ذلك النحو، فإن الولايات المتحدة لم تكن أكثر حماسة للتدخّل، خاصّة مع برنامج دونالد ترامب لتقليص عديد القوات الأميركيّة في القارة ككلّ، وجعل جهود بلاده العسكريّة متركزة في التدخل عبر الطائرات المسيّرة، فيما تكاد تنعدم مساعداتها الاقتصاديّة وبرامجها الاجتماعيّة.
العام الماضي، أي بعد حوالى سنة من انتخابه، توجّه تواديرا إلى مجلس الأمن الدوليّ، طالباً المعونة ورفع حظر التسليح المفروض على بلاده منذ 2013، ومتذمراً من بطء الغربيّين في مدّ يد المساعدة وتردّدهم في دعم القوات الرسميّة للسيطرة على المناطق المنفلتة، خاصّة أنّ بعثة الأمم المتحدة التي تضمّ أكثر قليلاً من 12 ألف عنصر تبدو عاجزة عن حفظ السلام الأهليّ وضبط الأوضاع الأمنيّة. وفيما أشاح الجميع بوجهه بعيداً، تقدّمت روسيا خطوة إلى الأمام.

أهلاً بالصديق الجديد!
نهاية العام الماضي، نجحت روسيا في تحصيل استثناء لها من حظر السلاح المفروض على أفريقيا الوسطى، رغم تردّد فرنسا في البداية، خاصّة لعدم منحها استثناءً مشابهاً قبل عام بمعارضة من روسيا. لم يمض وقت طويل حتى وصلت ثلاث شحنات من السلاح الخفيف إلى البلد، ومعها مُدرّبون عسكريّون أنشئت لهم أكاديميّة في قصر الرئيس السابق بوكاسا. أكثر من ذلك، صار الروس جزءاً من الحرس الشخصيّ للرئيس تواديرا. وتشير تقارير، غير مؤكدة، إلى نشر جنود تابعين لشركة الأمن الخاصّة «فاغنر» في مناطق مختلفة من البلاد، وهي شركة مُسجّلة في الأرجنتين (لا يسمح القانون الروسيّ بمثل هذا النوع من النشاط الخاصّ)، ولها روابط غير رسميّة مع الكرملين.
استطاعت روسيا إذاً أن تنجز ما عجز عنه، أو رفضه، غيرها. منذ تلك النقطة، أخذت العلاقات بين البلدين منحى تصاعديّاً. في أيار/ ماي هذا العام، تقابل تواديرا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش المنتدى الاقتصاديّ في سان بطرسبورغ، وأشارا خلال حديثهما إلى العلاقات التي جمعت بلديهما في عقدي الستينيات والسبعينيات، وأعلنا تطلّعهما إلى استعادة ذلك الوهج.
لم تقف جهود روسيا في أفريقيا الوسطى عند العتبة العسكريّة، بل سعت إلى تأسيس مقاربة أوسع. تعمل موسكو مثلاً على الجانب الإنسانيّ، حيث نشرت مستشفيات متنقلة، وتسعى إلى الإسهام في قطاع التعليم (تعلّم تواديرا نفسه في شبابه على أيدي أساتذة روس أُرسلوا إلى بلاده)، إضافة إلى البنى التحتيّة الأخرى. من جانب آخر، تعمل روسيا على إقامة خطوط تواصل مع زعماء التمرّد، حيث قابل مبعوثون لها ثلاثة من كبار رموز المعارضة حتى الآن، من بينهم الرئيس السابق ميشيل دجوتوديا، مستغلة علاقات قديمة معه تكوّنت حين درس خلال شبابه في «الجامعة الروسيّة لصداقة الشعوب».
من جهة أخرى، تعمل روسيا، سواء عبر شركات حكوميّة أو خاصّة، ومن خلال علاقاتها بالحكومة وأعدائها، على تحصيل عقود وحقوق استغلال مناجم للمعادن واليورانيوم منتشرة في طول البلاد وعرضها. وحتى الآن، لا يبدو أنّ أيّاً من الفاعلين الداخليّين معترض على ذلك.
على عكس ذلك، توجد دلائل على تخوّف فرنسا من الحضور الروسيّ في أفريقيا الوسطى أو حتى عملها على تقويضه. قبل أشهر، رفعت مجموعة مسلحة أعلاماً فرنسيّة في أحد أحياء العاصمة، ووزعت بيانات زعمت فيها أنّها تهاجم قوات الأمم المتحدة بدعم فرنسيّ. وفي المقابل، أصدرت السفارة الفرنسيّة بياناً ندّدت فيه بتوظيف اسمها على هذا النحو.
استمراراً مع هذا الخطّ، تحدّث مستشار لتواديرا مع مجّلة «جون أفريك» عن تخوّفات يحملها الرئيس تجاه فرنسا والغرب. خلال حديثه، قال المستشار إنّ «الغربيّين قادرون على تنظيم إسقاط تواديرا»، وإنّ الأخير «واعٍ بما يحاك ضدّه». إضافة إلى ذلك، تتحدّث وسائل إعلام محليّة باستمرار عن «مؤامرة» تحاك ضدّ البلاد، مع إشارات للغرب، ومع أنّها لا تُقدم تصوّراً واضحاً عن طبيعتها، إلاّ أنّها لا تلقى أيضاً إدانة أو نفياً من السلطات.
وبصرف النظر عن وجود مؤامرة من عدمه، من الواضح أنّ خيبة أمل تجاه الغرب بصدد الانتشار في أفريقيا، سواء بسبب تدخّلات بلدانه الانتقائيّة أو دوره السلبيّ في تنمية القارة، وما يُصرف على الحرب والتسليح والدمار من قبلها يتجاوز في أحيان كثيرة ما يُصوّر كـ«مساعدات». ضمن هذا المناخ، تجد روسيا هامشاً أوسع للتحرّك في القارة، بناءً على تصوّر جديد لسياستها الدوليّة يقوم على تدعيم الاستقرار والسيادة، من دون اشتراطات جانبيّة، وبرامج عسكريّة واقتصاديّة يتشارك فيها القطاعان العام والخاصّ.