انتهت مسيرة السناتور الأميركي، جون ماكين، أول من أمس، بعد صراع مع السرطان أكمل عاماً. لم يحقّق الأخير حلمه بأن يصبح رئيس الولايات المتحدة، على رغم محاولتين انتهتا إلى الفشل، لكنّه ظلّ مؤثراً في السياسة الخارجية لبلاده، وداعماً لحروبها. من هنا، يمكن فهم من حزنوا لرحيل «عراب الديموقراطية»، المؤيّد لـ«الربيع العربي» و«صديق الثوار». السعودية، الحليفة «القريبة والقديمة»، وفق وصف ماكين، أعلنت أنها «فقدت صديقاً عظيماً»، فيما نعاه رئيس الحكومة الإسرائيلية بوصفه «أكبر مدافع» عن كيان الاحتلال.
شارك في حرب فييتنام، وتمّ أسره هناك لمدة خمس سنوات (أ ف ب )

الاسم الحاضر دائماً، جون ماكين، رحل أول من أمس عن 81 عاماً. له نزعة فوقيّة واتسّاق أيديولوجي ممزوج برؤى خاصة جعلته محل جدلٍ نظراً لمواقفه في العديد من الملفات، خصوصاً على صعيد المنطقة. جعل ماكين من «مبدأ نشر الديموقراطية الأميركية» هدفاً عمِل على تحقيقه ما استطاع، سعياً لـ«إرشاد» الشعوب إلى «الصواب». لعلّ ما اقترفه جون ماكين (هنا) وما أيّده من غزوات، سيبقَى محفوظاً، ولفترة طويلة، في سجلّ «السياسة اللاأخلاقية».
هو عسكريّ سابق (ابن وحفيد عسكريَّين يحمل اسمهما)، سناتور جمهوري عن ولاية أريزونا، ومرشّح رئاسي؛ أجاد اللعب على التناقضات الداخلية: مستبدّ في الأوقات الرديئة لبلاده، وطالب إجماع من الحزبين (الجمهوري والديموقراطي) عندما تكون الأمور على ما يرام. هذا جعله مقبولاً لدى العديد من أقرانه وخصومه، وحتى «المستقلّين».
الرجل الذي لم يحِد عن قناعته بضرورة مشاركة «القيَم الأميركية» والدفاع عنها حول العالم، شارك في حرب فييتنام كطيار بحرية، وتمّ أسره في عام 1967 هناك لمدة خمس سنوات. ربّما تركَه ذلك مع فكرة واضحة عن هويته، وطموح سياسي أوصله إلى مجلس النواب عام 1982. كبرت طموحات النائب، فصعد إلى مجلس الشيوخ في 1986، حيث مكث حتى وفاته. في عام 2000، خسر ماكين «الصريح»، في الانتخابات التمهيدية لحزبه أمام جورج دبليو بوش، وعاد وفاز بالترشيح الجمهوري للانتخابات الرئاسية عام 2008، لكنّه هُزم أمام باراك أوباما.

سناتور «الربيع العربي»
امتلك ماكين إرثاً مختلطاً؛ فهو نزقٌ، حادّ الطباع، وأحد أشهر السياسيين الأميركيين وأكثرهم نفوذاً، كان من صقور السياسة الخارجية و«مهندسي الربيع العربي»، وأحد أكثر مؤيدي التدخّل العسكري خارج الحدود. بحسب بعض زملائه، فإنه لم يقل «لا» إطلاقاً للحرب.
قبل أن يكتشف «الخطأ الفادح» متأخِّراً؛ كان من أكثر المتحمّسين لغزو العراق، وأيَّد زيادة عديد القوات الأميركية هناك، منتقداً تعامل إدارة جورج بوش مع هذه الحرب. في مذكراته التي نشرت في أيار/ مايو الماضي، بعنوان «الموجة التي لا تهدأ»، كتب: «الحرب على العراق التي ناديت من أجل إطلاقها، لا يمكن الحكم عليها على أنّها أي شيء آخر سوى أنها كانت خطأ. خطأ خطير جداً، ويجب أن أتحمّل نصيبي من اللوم عليها». وتذكّر فجأة أنه «لم يكن هناك من داعٍ لإزهاق الأرواح والإخلال بالأمن... لقد خرجنا من حرب فييتنام واقتنعت صراحة أننا قادرون على النصر في حرب العراق وفعلنا ذلك؛ انتصرنا في حرب العراق بعد اتباع استراتيجية زيادة عدد القوات، وضحّيت من أجلها بكل شيء، بما في ذلك طموحي الرئاسي».
في عام 2011، لدى بدء «الربيع العربي»، دعا الولايات المتحدة إلى اتخاذ موقف مؤيّد لـ«الديموقراطية» في المنطقة. في قاموس ماكين، الديموقراطية تكمن في التدخّل العسكري في ليبيا، وضرب سوريا وتسليح فصائل المعارضة.
زار، مثلاً، بنغازي وطرابلس في عامي 2011 و2013، مدافعاً عن دور أقوى للولايات المتحدة في «ليبيا ما بعد القذافي». أراد كذلك تدخُّلاً حاسماً في سوريا. زار شمال البلاد، في أيار/ مايو 2013، بـ«صفة» أرفع مسؤول أميركي يدخل سوريا منذ بدء الحرب فيها حيث جال برفقة مسؤولي الفصائل المسلحة كواحد من أهل بيتهم. جلس بينهم داعياً إلى تزويدهم بالأسلحة الثقيلة، وإقامة منطقة حظر طيران تشمل الأراضي السورية كافة.
عُرف داخلياً بمواقفه المحافظة دينياً والداعمة للتجارة الحرة (خلافاً لترامب) والحدّ من الإنفاق الحكومي وبرامج الرفاهية. انتقد خفض الضرائب، ودعم زيادة الإنفاق العسكري (موازنة الدفاع)، وباعتباره حامل «أفكار مستقلة» عن أبناء حزبه، لم يتردّد يوماً في إعلان الخلاف معهم في القضايا الداخلية.
انتقد دونالد ترامب بشدة خصوصاً لجهة مواقفه من الهجرة والهجرة غير الشرعية. وبدا أنّ انتخاب الأخير ضرب عرض الحائط بـ«مبادئ» السناتور الجمهوري التقليدي الذي لم يخف استياءه من «نزعة رجل الأعمال الملياردير القومية والحمائية»، إلى جانب «مغازلته» للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، و«استخفافه» بكرامة منصب الرئاسة. وصف اجتماع الرئيس الأميركي مع نظيره الروسي في هلسنكي بأنه «خطأ مأسوي»، وتراجع جديد للولايات المتحدة.
طلب أن لا يحضر الرئيس الأميركي الـ«نزق» و«قليل الاطّلاع» جنازته. أمّا ترامب، فاكتفى بتقديم تعازيه في تغريدة مقتضبة، كتب فيها: «أقدم تعازيّ وأصدق احترامي لعائلة السناتور جون ماكين. قلوبنا وصلواتنا معكم!».

«صديق عظيم»
«ببالغ الأسى»، تلقّى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، نبأ وفاة جون ماكين «الذي كان رجلاً وطنياً كبيراً مخلصاً لأميركا وصديقاً حقيقياً لإسرائيل»، و«أكبر مدافع» عنها. وقال: «سأعتزّ دائماً بصداقته المتينة مع الشعب الإسرائيلي ومعي شخصياً. دعمه المستمر لإسرائيل نبَع من إيمانه بقيم الديموقراطية والحرية. دولة إسرائيل تؤدي التحية لجون ماكين». السناتور الراحل كان من أشد المدافعين عن «الديموقراطية الفعالة الوحيدة في الشرق الأوسط»، وفق ما وصف إسرائيل في إحدى مقابلاته مع «سي أن أن».
في السياق ذاته، أعرب السفير السعودي لدى الولايات المتحدة، خالد بن سلمان، عن تعازيه بوفاة ماكين، وكتب في تغريدة: «أخلص التعازي للشعب الأميركي على فقدان جون ماكين، البطل الأميركي الذي كرّس حياته لخدمه بلاده والنهوض بالسلام والأمن العالميَّين. كان صديقاً عظيماً للمملكة، رجل دولة محترم وجدير بالثقة حقاً. سنفتقده».