كعادته، فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب التصعيد خياراً وحيداً أمام تركيا، في ظل مواصلته فرض عقوباتٍ أشدّ، وتضييقه الخناق عليها اقتصادياً لإجبارها على إطلاق سراح القس الأميركي أندرو برونسون، المحتجز لديها منذ سنتين، فيما يمثل سبباً ظاهرياً للأزمة الجارية. تصعيدٌ قابلته أنقرة بـ«المِثل»، إذ صعّدت مواقفها وتدابيرها في مواجهة الولايات المتحدة لتفرض رسوماً جمركية مرتفعة على بعض البضائع المستوردة منها. إذن، اختارت تركيا «القتال»، حتى إن قضاءها رفض قبل أيام التماساً جديداً للإفراج عن برانسون.ومثلما تحوّل الخلاف مع روسيا إلى «حلف»، أو بالحد الأدنى إلى تفاهم، في عدد من الملفات مثل سوريا، لتبتعد بذلك أنقرة عن واشنطن خطوات إضافية، فإن العلاقة بين تركيا والصين تنحو بالمثل إلى التحسّن. وبينما جاءت مواقف الأصدقاء مثل قطر، أو حلفاء المصالح المشتركة مثل روسيا، مساندة لأنقرة، أعلنت أخيراً بكين متابعة الوضع التركي من كثب، وثقتها بأنقرة في تخطي الأزمة. ففي أول تصريح رسمي صيني، في ما يخص الأزمة مع واشنطن، آزرت بكين أنقرة. صحيح أن التصريح عبّر بلغة دبلوماسية تقليدية عن «أمل» بكين في أن يُحلّ الخلاف، فإنه حمل دعوة للشركات الصينية إلى توقيع مزيدٍ من الاتفاقات مع تركيا. إذ قال المتحدث باسم وزارة الخارجية، لو كانغ، في بيان، إن بلاده «تتابع من كثب الوضع في تركيا... هذا البلد الذي يُعَدّ سوقاً ناشئاً مهماً، يحظى وضعه بأهمية من أجل السلام والاستقرار في المنطقة».
هذا التصريح فتح الباب بسرعة لشركات عدة، من بينها «لينان هانزو» للأغذية، التي أعلنت قرارها شراء الزبيب والتين من تركيا بدلاً من الولايات المتحدة أو تشيلي. وقال ياوز سليم شان، وهو مدير شركة تقدم استشارات إلى «لينان هانزو»، إن كمية المنتجات التي ترغب الأخيرة في شرائها «مهمة جداً للسوق التركية». وأوضح ياوز أن أسواق الشرق الأقصى «توفر للشركات التركية إمكانية هائلة للتصدير». كذلك، أفادت مصادر إعلامية تركية بأن 59 رجل أعمال صينياً، على رأسهم الملياردير «جاك ما»، يتجهون إلى أنقرة لإقامة شراكات والبحث عن فرص استثمار جديدة. ويعتزم هؤلاء، الذين تراوح ثرواتهم بين 15 و30 مليار دولار، لقاء مسؤولين كبار ورجال أعمال أتراك لبحث إمكانية إنشاء مشاريع مشتركة في القطاعين العام والخاص. كذلك بدأت نحو 40 شركة تركية الاستعداد للمشاركة في «معرض الصين الدولي للاستيراد» الذي يُعقد في مدينة شنغهاي ما بين 5 و10 تشرين الثاني المقبل.
يشار إلى أن وزير الطاقة التركي، فاتح دونماز، أعلن أن بلاده تعتزم في الأشهر المقبلة البدء بمشروع لبناء محطة الطاقة النووية الثالثة بالتعاون مع الصين، علماً بأن البلدين أعلنا الأسبوع الماضي تعزيز علاقاتهما العسكرية.

هل الصين جاهزة للمواجهة؟
منذ بداية العام الجاري باتت دول عدة تحت مقصلة «الضرائب الأميركية» على السلع المستوردة منها، وهو ما جعل الصين وتركيا ودولاً أخرى في خندق واحد. فمثلاً، فرض ترامب على الصين رسوماً جمركية بقيمة نصف تريليون دولار، وهو لا يزال يهدد بالمزيد، والأمر نفسه لاقته تركيا قبيل الأزمة مع واشنطن، ما أدى إلى فرض ضرائب متبادلة زادت من هبوط قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأميركي، إذ فقدت نحو 20% من قيمتها منذ بداية الأزمة، ثم ارتفعت إلى 40% منذ بداية السنة، في ما وصف بأنه تراجع «تاريخي».
«هناك فرصة لائقة، أن تقدم الصين بعض المساعدات المالية إلى تركيا، بما في ذلك شراء بعض السندات المقومة باليوان، التي من المتوقع أن تصدرها»، هذا ما قالته صحيفة «مورينغ تشاينا ثاوث بوست» الأسبوع الماضي. رغم ذلك، شرحت الصحيفة الصينية الصادرة بالإنكليزية أن «بكين ستدرس بعناية خياراتها في مساعدة تركيا، ولن تقدم حزمة إنقاذ كبرى بسبب المخاطر من الدعم الأوسع من شأنه أن يثير مزيداً من القلق على الولايات المتحدة».
تعتزم تركيا إصدار سندات باليوان الصيني للمرة الأولى


ونقلت الصحيفة عن الخبير الاقتصادي ايدان ياو قوله إن «فرصة أن تقدم الحكومة الصينية المساعدات إلى تركيا ليست صغيرة، لكنها ستستند إلى حسابات سياسية أكثر منها اقتصادية»، مضيفاً: «كما الحال مع أي قرض أو سندات، هناك دائماً فرصة للتخلف عن السداد، وهذه المخاطر ستكون عالية، خاصة عندما يكون البلد في قلب العاصفة (تركيا)». وتابع: «من المرجح أن تضع بكين في الاعتبار المنفعة الطويلة المدى المتمثلة في بناء تحالف مع دولة تتعارض أيضاً مع الولايات المتحدة، الأمر الذي قد يمنحها المزيد من النفوذ السياسي العالمي... (لكن) مساعدة تركيا على التحايل على العقوبات الأميركية من المحتمل أن تزيد من استفزاز واشنطن التي قد تستجيب بتدابير أكثر صرامة ضد الصين».

التقارب ليس وليد اليوم
في أيّار 2017، شارك الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في قمة «طريق الحرير» في بكين، التي كانت بمكانة إطلاق رسمي لرؤية المشروع الذي تؤدي تركيا فيه من الناحية الجغرافية والسياسية دوراً محورياً. تكثفت الزيارات الرسمية بعدها بين المسؤولين الأتراك والصينيين، كذلك حافظ رئيسا البلدين على تواصلهما. وفي تموز الماضي، شاركت تركيا في قمة «بريكس» التي انعقدت في جوهانسبورغ في جنوب أفريقيا، ولم يخفِ أردوغان آنذاك طموح بلاده في الانضمام إلى هذا التجمّع. ومن بين الاجتماعات الجانبية التي عقدها على هامش هذه القمة، اجتماع مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، ضم وفداً كبيراً من الوزراء والمستشارين.
خلال انتهاء تلك القمة، أعلن وزير الخزانة والمالية التركي، براءة البيرق، نجاح بلاده في الحصول على حزمة قروض من مؤسسات مالية صينية بقيمة 3.6 مليارات دولار، وذلك لمصلحة القطاع الخاص والمؤسسات المهتمة بالاستثمار في مجالي الطاقة والمواصلات. ثم في أوائل آب الجاري، أي في بداية الأزمة التركية - الأميركية، أعلن الرئيس التركي أن بلاده تعتزم إصدار سندات باليوان الصيني للمرة الأولى، وذلك بهدف تجاوز العقبات التي أمام تركيا في الاقتراض من الخارج، خاصة أن المشرعين الأميركيين سعوا إلى حرمانها القروض الدولية على خلفية ملف القس برانسون.
في مقابل الأسباب التركية للتقارب مع بكين، يرى القادة الصينيون أن تركيا مركز نفوذ في منطقة الشرق الأوسط الكبرى، وبلد يحتل موقعاً محورياً في مشروع «طريق الحرير الجديد» الذي أطلقته بكين، بوصفها مركزاً ضمن سلاسل التوريد العالمية الرابطة بين الأسواق الصينية والأوروبية. أما المسؤولون الأتراك، فيقولون إن مبادرة «الممر الأوسط» التركية تتوافق تماماً مع «طريق الحرير».