مع اتساع نطاق التظاهرات الغاضبة التي تشهدها المحافظات الجنوبية وتحولها في غير منطقة إلى مواجهات مع القوات الأمنية، تتقدم تساؤلات حول مآل هذه الاحتجاجات وإمكانية الاستثمار السياسي فيها. عوامل عدة توفر للولايات المتحدة أسباباً للدخول على خط الحراك المطلبي وجذبها إليه، في حين تجد إيران نفسها معنية بالدفع إلى ضبط الأوضاع أمنياً، ومن ثم الاشتغال على مسارَين سياسي واقتصادي يلائمان حلفاءها. وما بين الطرفين الخارجيين، ثمة حسابات داخلية لكل من أفرقاء العملية السياسية، الذين يبدو قائد مرحلتهم الانتقالية، حيدر العبادي، الأكثر تضرراً.لم تكد تخفت موجة الاحتجاجات الشعبية التي واجهتها سلطات بغداد خلال الأعوام الثلاثة الماضية (منذ صيف 2015 وحتى قبيل أشهر من انطلاق الماراثون الانتخابي)، حتى انطلقت موجة أخرى في ظرف أشد صعوبة متمثل بالفراغ التشريعي المخيّم على البلاد للمرة الأولى منذ 15 سنة، والخلاف المستمرّ في شأن تشكيل الكتلة النيابية الأكبر والذي سيمهّد لتشكيل حكومة جديدة. فروقات عدة يمكن تسجيلها ما بين الموجتين لنواحي قيادة الفعل الاحتجاجي وشعاراته وأشكاله وغيرها، لكن المشترك بينهما فضلاً عن المنطلق الزمني، الذي هو شهر تموز/ يوليو بما يعنيه هذا التوقيت من «جحيم» لا يُطاق في بلاد الرافدين، هو إمكان الاستثمار السياسي فيهما من قبل أطراف عدة داخلية وخارجية.
انطلقت الموجة الأولى في تموز عام 2015، واستمرت حتى آذار/ مارس عام 2017. وقد رفع لواءها، حينها، زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، تحت شعار محاربة الفساد والمطالبة بتنفيذ الإصلاحات الحكومية. بدت الأمور، وقتذاك، أكثر وضوحاً وتنظيماً مما هي راهناً. صحيح أن محفّزها المباشر، خلال الفترة المشار إليها، كان - مثلما هو حالياً - ارتفاع درجات الحرارة تزامناً مع أزمة كهرباء خانقة، إلا أنها ظهرت مُقَولبة ضمن إطار حزبي وشعاراتي لم يمنع عمليات «التسلل» السياسي نحوها. اليوم، يبدو انفجار فورة شعبية في محافظات الجنوب عموماً، ومحافظة البصرة خصوصاً، مفهوماً وطبيعياً بالنظر إلى جملة عوامل موضوعية في مقدمها: تردي خدمة التيار الكهربائي والذي تفاقم مع قيام إيران أخيراً بقطع خطوط الطاقة التي كانت تزود بها العراق ما أفقد الأخير قرابة 1400 ميغاواط (عزت طهران الأمر إلى تراكم الديون على جارتها، فيما أرجعته بغداد إلى شحّ الكهرباء الحاصل في إيران)، ارتفاع نسبة الملوحة في شط العرب شمال البصرة إلى مستوى غير مسبوق في ظل الانخفاض الكبير المُسجَّل أصلاً في منسوب مياه نهرَي دجلة والفرات وما نجم عنه من أزمة في توافر مياه الشرب والاستخدام، وأخيراً تزايد عدد العاطلين من العمل على رغم انتشار الشركات النفطية في الجنوب.
تحمّس خليجي مصحوب بحذر للموجة الجديدة من الاحتجاجات في الجنوب


كل تلك الأسباب وغيرها أدت، خلال الأيام القليلة الماضية، إلى اندلاع تظاهرات غاضبة في البصرة سرعان ما امتدت إلى ميسان وذي قار والديوانية وبابل والنجف وكربلاء. حتى الآن، لا قيادة واضحةً للتظاهرات سوى بعض الشخصيات العشائرية والوجهاء الذين لم تصل تحركاتهم حد تشكيل كيان جامع ناطق باسم المحتجين، ولعلّ هذا هو ما يجعل العمل على احتواء الغضب ومعالجته أكثر صعوبة. الأهم مما تقدم، أن الاحتجاجات، وعلى رغم أن شعاراتها لا تزال تراوح في الإطار المطلبي ولم تتعدّاه إلى ما يمكن اعتباره دليلاً على «شبهة تدخل خارجي»، إلا أنها بلغت حد اقتحام مقارّ حكومية وإحراقها وتعطيل مرافق حيوية، الأمر الذي يسهّل احتمال اختراقها من قبل من تسمّيهم الحكومة العراقية «المندسّين»، مع ما يفتح عليه ذلك من سيناريوات فوضى، لا يبدو أن الولايات المتحدة تجد ضيراً منها إذا كان في الأمر تضييق على الوجود الإيراني.
خلال تظاهرات الأعوام الماضية والتي قادها «التيار الصدري»، وجدت واشنطن الفرصة سانحةً للدفع بالنشطاء المتخرجين من منظماتها الفاعلة في بلاد الرافدين إلى الميدان بهدف تصدير شعاراتهم الخاصة. اختلط حينذاك الحابل بالنابل، وتداخلت صيحات الإصلاح مع هتافات بدت خارجة من السياق، ليؤول الأمر إلى يوم دموي في المنطقة الخضراء (7 قتلى وأكثر من 300 جريح)، سرعان ما أعلن الصدر «تبرؤه» من أعمال الشغب التي تخلّلته. مع انطلاق سباق الانتخابات التشريعية التي أجريت في أيار/ مايو الماضي، تجددت الرهانات على تحالف انتخابي يمكن أن يشكّل كتلة وازنة بمواجهة القوى المحسوبة على إيران، والتي أضيف إليها (للمرة الأولى برلمانياً) الحشد الشعبي. جاءت النتائج، في الظاهر، موائمة لتلك الرهانات؛ إذ حصد تحالف «سائرون» الذي ضم إلى «الصدريين» «الشيوعيين» وقوى «مدنية» العدد الأكبر من المقاعد، من دون أن يتمكن في الوقت نفسه من بلوغ ما يؤهله لتشكيل الحكومة بغير عناء. اليوم، ومع بروز مؤشرات إلى إمكان نجاح طهران في إعادة لملمة شتات الكيانات الموالية لها، لا يظهر مستبعداً احتمال دخول أميركي - خليجي على خط التظاهرات المطلبية الجديدة للتشويش على تلك العملية «الإيرانية».
احتمالٌ، يشكّل الاستنفار الأمني إزاء الاحتجاجات، وإمكان انزلاقها نحو بلبلة أوسع وأكبر، جزء من عدّة مواجهته. وهي عدةٌ تشمل، أيضاً، خيارات سياسية واقتصادية، تستهدف تعزيز أوراق طهران على الساحة وتثبيت دورها «راعياً» للبيت العراقي. في مقدم تلك الخيارات يأتي احتمال إعادة وصل خطوط الطاقة المقطوعة بين البلدين كما حصل عامي 2016 و2017، وهو ما من شأنه توليد حالة من الرضا لدى العراقيين حيال إيران. وعلى المستوى السياسي، يتقدم سيناريو اجتماع حزب «الدعوة» بجناحَيه (حيدر العبادي ونوري المالكي)، مع الكتلة المُمثِلة للحشد الشعبي، وأطراف «سنية» وكردية، في ظل معلومات عن أن المفاوضات بين هذه الأطراف بلغت مرحلة متقدمة، وأن الخيار متروك لمقتدى الصدر بين الانضمام إلى هذا الائتلاف أو الذهاب نحو صفوف المعارضة. في كلا الحالين، سيكون إمكان الاستثمار الأميركي والخليجي في الشعارات التي يرفعها الرجل أقل مما بدت قبيل الانتخابات؛ على اعتبار أن الصدر سيكون إما مقيداً بخيارات «التحالف الوطني» (إن أعيد إحياؤه) أو محدود الحركة في جبهة أضعف من جبهة الموالاة. ولعلّ ذلك هو ما يفسّر بعض الحذر الخليجي في التعامل مع الموجة الجديدة من الاحتجاجات - التي دعمها الصدر وتبنى مطالبها - على رغم التحمس البائن لها في وسائل الإعلام الموالية للسعودية والإمارات (خففت تصريحات «التيار الصدري» قبل شهرين، والتي اتهمت الوزير السعودي ثامر السبهان بأنه «متسرع ولا يدرك الوضع جيداً في العراق»، اندفاعة الرياض نحو دعم «التيار» وزعيمه).
في الحسابات الداخلية، لا يظهر أن الصدر قد يئس من قدرته على المناورة في مواجهة منافِسيه. وما إبداؤه استعداده للخروج في «تظاهرة مليونية» تضامناً مع متظاهري الجنوب، وإرساله وفداً إلى هؤلاء لتسلم مطالبهم، إلا جزء من التكتيكات المطلوبة للظهور بمظهر الإطفائي، وبالتالي (سياسياً) العرّاب القادر على جمع الأفرقاء تحت راية «الإصلاح». في المقابل، يبدو رئيس حكومة تصريف الأعمال الطرف الأكثر تضرراً مما يجري؛ إذ إن ما يهمّ الرجل اليوم تمضية الفترة الانتقالية الفاصلة عن تثبيت نتائج الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة بأقل قدر من الخسائر، بالتالي فمن غير مصلحة العبادي بروز توتر يمكن أن يؤثر في مساعيه إلى تزكيته لولاية ثانية، وهذا ما يجعل حسابات رئيس «ائتلاف النصر» متقاطِعة مع الحسابات الإيرانية في ضرورة حفظ الساحة من الخضات الأمنية. أما بالنسبة إلى بقية القوى الممثلة للمحافظات الجنوبية (ائتلاف المالكي وفصائل الحشد الشعبي) فهي تنحو في موقفها منحى دعم التوجه الحكومي في منع أي انفلات، خصوصاً بعدما طاولت أعمال العنف مقرات بعض منها في غير منطقة، في تطور يجدر بهذه القوى قراءته على أنه رسالة تحذير شعبية ثانية، بعد الرسالة الأولى المتمثلة في تفضيل مقتدى الصدر انتخابياً على من سواه.