القاهرة | منذ ست سنوات، اكتشف الناقد المصري سيد البحراوي (1953-2018) إصابته بمرض السرطان. وكعادته، قاوم المرض الذى هاجمه بضراوة، تعامل معه كما اعتاد كعمل فني، كفرصة لتأمل مسألة الألم كفكرة وفلسفة. وبالفعل، سجل يومياته مع المرض في كتاب «في مديح الألم». في تلك الرحلة، لم يكن يشغله الموت كما كتب: «حين فكرت في احتمال الموت، لم أكن منزعجاً. فليأتِ إذا أراد، لكني على كل حالٍ أستطيع أن أعيش ما بقي من العمر، دون غضب أو تجهم أو استياء. سأحاول أن أستمتع بما أعيشه» بقدر ما اهتم بالتأمل باعتباره «الصحبة الأفضل في حالة المرض». نجح صاحب «المدخل الاجتماعي للأدب» في التغلب على مرضه، والانتصار عليه، قبل أن يهاجمه مرة أخرى قبل أشهر ليرحل أول من أمس. ولد البحراوى بعد عام واحد من حركة الضباط الأحرار. نشأ في ظل شعاراتها، وتشكل وعيه في ظل توجهاتها، وأحلامها وإحباطاتها أيضاً. كانت هزيمة يونيو فرصة للجميع لمراجعة شاملة. التحق البحراوي بكلية الآداب (قسم اللغة العربية)، في الوقت الذي تولى فيه السادات السلطة، وبدأت حركة طلابية قوية ضده، تطالبه بالحسم ضد إسرائيل. في الكلية، تعرف البحراوي إلى النقاد عبد العزيز الأهواني، وعبد المنعم تليمة، وعبد المحسن طه بدر، الذين قادوه إلى الماركسية، كمنهج لفهم العالم. وتركت علاقته بالناقدة الراحلة لطيفة الزيات فيه تأثيراً كبيراً في طريقة النظر إلى العالم، والتعامل بديمقراطية مع الطلاب.
وفي منتصف السبعينيات، أنهى البحراوي دراسته الجامعية، ولكنه التحق بهيئة التدريس معيداً، واختار إيقاع الشعر موضوعاً لدراستيه للماجستير، ثم الدكتوراه، وكانتا تحت عنوانَي «موسيقى الشعر عند شعراء أبوللو»، و«الإيقاع فى شعر السياب». وخلال دراستيه، كان مهتماً بالبحث «عن نقد ماركسي قادر على إدراك ودراسة الجانب الاجتماعي في التقنيات الفنية والجمالية في النص الأدبي» كما قال.
اعتبر أنّ التبعية الذهنية للغرب هي أساس «أزمة الوطن»


وهكذا بدأت تتبلور في ذهنه نظريته الخاصة عن «محتوى الشكل» التي بدأ تطبيقها في دراسته عن الشاعر أمل دنقل «في البحث عن لؤلؤة المستحيل». ثم بدأت ملامحها في الاكتمال في كتبه المتتابعة «محتوى الشكل في الرواية»، «المدخل الاجتماعي للأدب» و«في نظرية الأدب: محتوى الشكل مساهمة عربية». نظرية حاول من خلالها «توسيع معنى اجتماعية الأدب لتشمل النفس البشرية واختياراتها وأفعالها، انطلاقاً من النص الأدبي أو الفني (أو حتى اللغوي المباشر)، بما يحيلنا إلى انتماء هذا المؤلف أو المبدع إلى فئة اجتماعية معينة في مكان معين وزمان معين». وهى النظرية التى تأثر فيها بالناقد يوري لوتمان. من ضمن اهتمامات البحراوي نقد ما سمّاه «الحداثة التابعة في الثقافة المصرية»، معتبراً أن التبعية الذهنية للغرب هي أساس «أزمة الوطن» تهدد وجوده، بخاصة أن التبعية لم تعد حكراً على المثقفين، بل «مجمل الطبقات الشعبية» عبر وسائل الإعلام.
لم يكتف البحراوي بالبرج العاجي للأكاديمي، بل كان فاعلاً في كل أنشطة المقاومة. لعب دوراً أساسياً في تأسيس «لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية» التي تأسست لمواجهة الكيان الصهيوني فى مصر، في بداية الثمانينيات، كرد فعل على معاهدة كامب ديفيد. شارك أيضاً في تأسيس العديد من التجارب الصحافية الثقافية مثل مجلة «خطوة»، «المواجهة»، «البديل»، و«أدب ونقد» التي أصدرها «حزب التجمع». كذلك شارك مع زوجته الأكاديمية أمينة رشيد في ترجمة عدد من الإبداعات الفرنسية مثل: «المكان» لآني ايرنو، و«الأشياء» لجورج بيريك. وإبداعياً، ترك البحراوي العديد من الإبداعات الروائية والقصصية، بخاصة أنه بدأ بكتابة الرواية عندما كان في السادسة عشرة، لكنه توقف عن ممارسة الإبداع لما يقرب من 30 عاماً، لينهي القطيعة بروايات «ليل مدريد»، «صباح وشتاء»، «طرق متقاطعة»، «هضاب ووديان»، «شجرة أمي» التي يستعيد فيها تجربة رحيل أمه، وأخيراً «في مديح الألم» الذى كتب فيه يومياته مع تجربة المرض.

* يقام العزاء بعد غد الأربعاء في مسجد عمر مكرم وسط القاهرة