لندن | تستمر الحملة الأميركية ضدّ فنزويلا التي انتهجت اشتراكيتها منذ 19 عاماً. تصاعدت هذه الحملة في الأسابيع القليلة الماضية، بهدف هو نفسه، مهما تبدّلت الشعارات: إعادة أميركا اللاتينية إلى زمن الانقلاب الدموي الذي نفذه الجنرال التشيلي أوغيستو بينوشيه، عام 1973 ضدّ الرئيس اليساري المنتخب سلفادور آليندي.مراقبون زاروا العاصمة الفنزويليّة كراكاس هذا الأسبوع، يقولون إنّ المدينة تكاد تغرق في مواد الدعاية الانتخابيّة للمرشحين الخمسة إلى «الرئاسيّات» التي ستجري غداً بموازاة انتخابات بلديّة وأخرى عامّة لانتخاب ممثلي الشعب إلى الجمعيّة الوطنيّة (البرلمان) في هذا البلد الذي يتعرض لضغوط أميركيّة مستمرة منذ عقدين من الزمن، أي بعد تولّي الرئيس هوغو تشافيز، السلطة عام 1999 وتبني النظام هناك سياسات اشتراكيّة.
الرئيس الحالي نيكولاس مادورو (55 عاماً) يبدو الأوفر حظاً للحصول على تفويض شعبي للاستمرار في إدارة الجمهوريّة لولاية جديدة من ست سنوات. فالرّجل نجح في جمع كافة تيارات اليسار على مختلف تلاوينها في جبهة واحدة مع الوطنيين الفنزويليين، والاتجاهات المعادية للإمبرياليّة الأميركيّة، والمنظمات النسوية، وموظفي القطاع العام، وتجمعات الصيادين، وبعض قطاعات البورجوازيّة الوطنيّة. وهو برغم حرب اقتصاديّة قاسيّة يشنها النظام الرأسمالي العالمي (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض من منظمة الدّول الأميركيّة)، يحتفظ بسجل ممتاز على صعيد الإنجازات لمصلحة العمال والسكان الأصليين للبلاد والطبقات المهمشة، ليس أقلها مشروع الإسكان الشعبي الذي يحقق أهدافه بتقديم ثلاثة ملايين وحدة سكنيّة للأقل حظاً، ومساندة نظامه للفلاحين الصغار في مواجهة كبار ملاك الأراضي، كما حملته الواسعة ضد الفساد في شركة البترول الفنزويليّة (أهم مرافق البلاد الاقتصاديّة على الإطلاق)، إضافة إلى توسيعه لقاعدة الناخبين لتصل إلى 98% ممن يحق لهم الإدلاء بأصواتهم، ولا سيما في المناطق الريفيّة والأقاليم الفقيرة المنحازة عادة إلى «التشافيزيّة» التي يُمثّل مادورو رمز استمراريتها.
مادورو، هو «الرجل الأخضر» وفقاً للاسم الحركي الذي أطلقه عليه تشافيز (أ ف ب )

برنامج مادورو الانتخابي يقوم على تحقيق إصلاحات سياسيّة واجتماعيّة مطروحة على النقاش العام منذ بعض الوقت، علماً أنّ اليسار لطالما اتهم مادورو بالتلكؤ في تنفيذها لحرصه على عدم استفزاز اليمين، وأهمها على الإطلاق تجاوز اعتماد الاقتصاد المحلي على تصدير النفط وتحقيق استقرار أمني وسياسي في البلاد.
مادورو، أو «الرجل الأخضر»، وهو الاسم الحركي الذي أطلقه عليه تشافيز، يواجه أربعة مرشحين أهمهم على ما يبدو المرشح اليميني هنري فالكون، فيما تدعم تيارات دينية مسيحيّة مرشحَين مستقلين اثنين، إضافة إلى مهندس كهرباء يساري يقول إنّه لا يعادي العمليّة الاشتراكيّة في البلاد، لكنه يعتقد أنّ مادورو ليس الرّجل المناسب لقيادة تلك العمليّة.
اليمين الفنزويلي المرتبط بالسياسة الأميركيّة، مقاطع للانتخابات رسميّاً، وفالكون الذي سمّاه مادورو «هنري فال ــ ترامب»، كان قد انشق عن تجمع «المائدة المستديرة» المعادي بشدّة لـ«التشافيزّية» والمقاطع للانتخابات. لكنّ المزاج العام بين قواعد اليمين هو التصويت الاعتراضي على مادورو من خلال تأييد رفيقهم السابق عسى أن يتحوّل الامتعاض الشعبي حيال الضغوط الاقتصادية الصعبة إلى تصويت ضد مادورو، رغم أن تلك المراهنة تبدو خاسرة إلى الآن.
التحدي الرئيسي لليسار «التشافيزي» في هذه الانتخابات، وتحديداً لشخص الرئيس مادورو، ليس بالضرورة إذاً شعبيّة مرشحي المعارضة بقدر ما هو مواجهة مفاعيل الحرب الأميركيّة المفتوحة على فنزويلا وسعيها المعلن لإسقاط نظامها الشرعي المنتخب. فقبل أشهر عدة طالب الأميركيون بإجراء انتخابات مبكرة للبناء على تذمّر المواطنين بسبب انقطاع المواد الاستهلاكيّة وتردي الخدمات الصحيّة بغرض إبعاد «التشافيزيين» عن الحكم وتولية الحكم للمعارضة اليمينية (التي لا تخفي تنسيقها مع الأجهزة الأميركية). ولا شك في أنّ الدلائل المتدفقة عن عجز اليمين عن تحقيق اختراق، قد دفعت «الإمبراطوريّة» إلى العدول عن مطالباتها والدعوة إلى إلغاء العملية الانتخابية برمتها بسبب ما وصفته بحال الفوضى في البلاد وتضييق السلطات على قادة المعارضة. وقد وجهت «منظمة الدّول الأميركية ــ مجموعة ليما» إثر اجتماعها الطارئ بشأن فنزويلا في العاصمة المكسيكيّة مطلع هذا الأسبوع، تحذيراً شديد اللهجة للسلطات الفنزويليّة، تلاه وزير الخارجية المكسيكي لويس فاديغاراي، يدعوها إلى عدم إجراء الانتخابات في 20 أيار الجاري، وأشارت إلى أن الدول الأعضاء في المنظمة تريد «استعادة العمليّة الديموقراطيّة» في فنزويلا، وأنها ستتضامن أجل ذلك لاتخاذ إجراءات عقابيّة ضد نظام كاراكاس (لم تُسمها)، من دون أن يستبعد أحد من المراقبين أن المجموعة قد تكون بصدد التدخّل عسكرياً لإسقاط اليسار «التشافيزي». ومن المعروف أنّ «منظمة الدّول الأميركيّة» هي نادٍ للأنظمة اليمينيّة الخاضعة للهيمنة الأميركيّة وتأتمر بأمر واشنطن. ولم يستبعد الرئيس البوليفي اليساري إيفو موراليس، في تصريحات له على «تويتر»، إقدام الجيش الأميركي على غزو فنزويلا دعماً لانقلاب عسكري تعمل المخابرات الأميركيّة على تنفيذه في البلاد.
هناك بحث أميركي مكثّف عن جنرال من طينة التشيلي أوغيستو بينوشيه


ولعل تصريحات المسؤولين الأميركيين بهذا الشأن تشير إلى بحث مكثّف عن جنرال من طينة أوغيستو بينوشيه الذي كان قد تآمر مع المخابرات الأميركية عام 1973 لإسقاط تجربة الرئيس سلفادور آليندي، الاشتراكيّة في تشيلي، عبر انقلاب دموي قتل فيه ما لا يقل عن 10 آلاف من خيرة قيادات البلاد وشبابها. هذا مع العلم أنّ آخر جولة من العقوبات الأميركيّة (الخامسة من نوعها إلى الآن)، صُوِّبت نحو قيادات عسكريّة عليا في الجيش الفنزويلي، وفق توجيهات المخابرات المركزيّة الأميركيّة للرئيس دونالد ترامب (كما جاء في كلمة لوزير الخارجيّة الأميركي مايك بومبيو، أخيراً)، وهو ما يشير حتماً إلى استمرار ولاء المؤسسة العسكريّة للنظام «التشافيزي»، أقلّه إلى الآن.
نظام مادورو ليست لديه خيارات كثيرة. فاليسار الماركسي، بما فيه مجموعات «تاباك آمارو» الفنزويليّة، غير راضٍ عن وتيرة التحول نحو الاشتراكيّة في البلاد، وهو يطالب الحكومة بتصعيد المواجهة وتنفيذ تطهير عام لمواقع سيطرة البورجوازيّة، ويلمّح إلى استعداده للدّفاع عن الجمهوريّة بالسلاح إذا تطلب الأمر، مستذكراً الدّرس الذي تعلمه يساريو أميركا اللاتينيّة من اعتماد نظام آليندي في تشيلي على الأساليب الديموقراطيّة في الوقت الذي لم يتورّع فيه اليمين عن سفك الدّماء وقصف رئاسة الجمهوريّة بالطائرات، بل واغتيال الرئيس آليندي نفسه. وعلى المقلب الآخر، تستمر الولايات المتحدة في تصعيد ضغوطها من دون هوادة، وقد زار مايك بومبيو في أولى جولاته الخارجية القواعد العسكريّة الأميركيّة العشر في كولومبيا، وتحدث قائد المنطقة في الجيش الأميركي عن عمل جماعي مع أنظمة معادية لكاراكاس باتجاه بناء القدرة العسكريّة للتدخّل إذا تطلب الأمر ذلك، بينما أعلن الرئيس دونالد ترامب صراحةً أنّ «الخيار العسكري موجود على الطاولة في ما يتعلق بفنزويلا».
في ظلّ هذه الضغوط، إنّ مجرد إجراء الانتخابات في موعدها، هو إنجاز سيُحسب لمادورو. وفوزه فيها مع استمرار سيطرة اليسار على الجمعيّة الوطنيّة والبلديّات، سيمنحه التفويض اللازم للمضي نحو تقدّم نوعي في اتجاه فكفكة أسس النظام البورجوازي، وتمكين التجربة الاشتراكيّة لمصلحة القطاع الأعرض من المواطنين الفنزويليين، الذين يتعيّن عليهم ساعتها الدّفاع بـ«أيديهم وأسنانهم» عن تجربتهم المتقدمة في وجه الحصار الاقتصادي واحتمالات الغزو العسكري، وهُم للحقيقة، كما شعوب أميركا اللاتينية كلّها، ليست لديهم أوهام بشأن النيات العدوانيّة الدّائمة لـ«الإمبراطوريّة» تجاه كل تجربة تحررية داخل ما تعتبره واشنطن بمثابة منطقة نفوذ لها و«مجال حيوي».
وعليه، لن ينام أحد في كاراكاس ليلة الغد، ولا في واشنطن.