ككل سنة، انقسم إحياء ذكرى نضالات العمّال، من أجل ظروف حياة كريمة وعمل لائق، في مونتريال، إلى ديناميكيّتين متوازيتين. تدور الأولى حول فلك المنظمات النقابية البيروقراطية الإصلاحية، فيما تكون المنظمات اليساريّة الراديكاليّة، بتنوعها، مركز الديناميكيّة الثانية.
مسيرة المركزيّات النقابيّة: مناخ الوئام الطبقي
كمهاجر جديد، وعامل في أحد مصانع مونتريال، شاركت في التظاهرتين، لكن لأسباب مختلفة في كل منهما: كان ذلك بدافع الفضول في الأولى، وشعوراً بالانتماء في الثانية.
نُظِّمَت تظاهرة مركزيّة للبيروقراطيّات النقابيّة في كل مقاطعة الكيبيك، وهي منظمات جماهيريّة تضم ما يقارب مليون عامل وعاملة (تقريباً 40% من القوّة العاملة). وقد اختار المنظمون يوم السبت 28 نيسان/أفريل، تاريخاً لمسيرة أرادوها «ضخمة، مركزيّة واحتفاليّة». ولم يكن اختيار التاريخ مصادفة، إذ إنّه كان مبرراً بسببين على الأقل. فيوم السبت يوم عطلة في كندا، وهو ما يُعفي المنظمين من حرج وضع النقابيين أمام ضرورة الحصول على يوم إجازة، ولا يخفى على المنظمين هنا أن أغلب العمّال لن يتحرّجوا من تجاهل المسيرة في هذه الظروف، وهو ما يعني الحكم على المسيرة بالفشل.
كانت مسيرة 28 نيسان/أفريل «بيضاء» بامتياز

وهذا ليس من قبيل التنجيم، إذ إنّ المركزيّات النضالية تعرف حجمها وضعف قدرتها على الحشد في مسيرة «احتفاليّة» كهذه. ومن المعروف في الكيبيك (وكندا عموماً) ضعف الزخم النضالي لهذه النقابات «التريدينيونيّة»، التي تجد نفسها عاجزة عن حشد منخرطيها خارج فترات التعبئة القصوى لتحقيق مطالب قطاعية مباشرة. وقد سبق أن غامرت هذه النقابات بتنظيم مسيرة «عيد العمّال»، كما يطلق عليه في الدوائر النقابيّة هنا، في أيام العمل وسط الأسبوع فكان الحشد هزيلاً، وهو ما يجعلها لا تخاطر بخيار كهذا من جديد، خصوصاً أنّ قدرتها على الحشد هي أحد المعايير المعتمدة في حصولها على التمويلات والقبول بها على طاولة التفاوض. أمّا السبب الثاني، فهو عدم رغبة هذه المنظمات في «تعطيل» العمل (ولو نسبيّاً) وإزعاج أرباب العمل بإفراغ الإدارات والمصانع والورشات من العمّال (ولو بنسب قليلة).
دارت المسيرة في أجواء هادئة، حدّ البرود. كان الاتفاق والانسجام التامان باديين بين لجنة تنظيم المسيرة وأعوان الأمن الذين لم تتجاوز أعدادهم بضع عشرات. ومن الأدق القول إنّ قوات البوليس هي التي كانت تسيّر المسيرة وتوجهها.
لم تشهد المسيرة تقريباً أي خروج عما كان مسطّراً لها من انضباط و«أجواء احتفالية» مخطط لها وغير عفويّة بالمرة. قد يبدو هذا متناقضاً للقارئ العربي البعيد عن كندا ومجتمعها، إلا أن تاريخاً سياسيّاً واجتماعيّاً خصوصيّاً سلكه الصراع الطبقي هنا، هو الذي حدد في جزء منه أشكال إدارة الصراع المجتمعي، ومن أشكاله العلاقة الثلاثيّة بين النقابات وأجهزة الدولة وأرباب العمل. فالانضباط من سمات البيروقراطيات. أمّا الأجواء الاحتفاليّة فهي طابع مميز لمسيرات «عيد العمّال». لكنها أجواء احتفالية على غاية من الركاكة والرتابة، إذ إنّها تفتقر إلى عنصر المفاجئة والبهجة والانفعال التي يعتبر الارتجال أحد مرادفاتها، وهو سلوك تمقته البيروقراطيات عموماً وخصوصاً البيروقراطيات النقابية في الكيبيك. وهو ما جعل المسيرة تبدو باهرة الألوان من بعيد، توجد فيها كل ألوان الطيف المحتملة، توحي لك بأنك أمام تنوع رهيب وتعبيرات حيّة عن قوى المجتمع الكامنة. لكن واقع المسيرة عن كثب كان مختلفاً تماماً. كل هذه الألوان التي تعبّر عن نقابات قطاعية مختلفة كانت في الحقيقة تمظهرات مختلفة للواقع نفسه. تنظيمات متشابهة لا يميّز بينها سوى قطاع العمل واسمها ولونها، أما ما خالف ذلك، فهو ليس إلا ديكوراً، أو يكاد.

الانضباط من سمات البيروقراطيات، أمّا الأجواء الاحتفاليّة فتُميّز مسيرات «عيد العمّال»

سارت المسيرة التي جمعت ما بين 3 و4 آلاف شخص، إذاً في طمأنينة ووئام كبيرين. لم يردد فيها أي شعار بصوت عالٍ أو بنوع من الغضب والاحتجاج. كانت مسيرة صامتة تقريباً لولا طنين بعض المزامير التي وزّعها المنظمون على بعض المشاركين، ولولا تفصيل صغير سأعود إليه في الفقرات اللاحقة. وحتى الشعارات التي رُفعت في لافتات فقد كانت هادئة، رصينة، و«عقلانيّة». وقد تقدّمت المسيرة من نقطة الانطلاق إلى نقطة الوصول ببطء، ورغم ذلك فإنها لم تدم لأكثر من ساعة بسبب قصر المسافة. وقد سلكت المسيرة شارعين كبيرين داخل حيّ سكني في مونتريال، ما جعلها بعيدة عن وسط المدينة، غير مرئية من عموم سكّان المدينة. أما من ناحية الخصائص الاجتماعيّة للمشاركين، فإنّهم كانوا متساوين بين النساء والرجال، كذلك كان التنوّع في حضور القطاعات بارزاً للعيان، إلا أنّ الغائب الأكبر هم المهاجرون والمهاجرات. فقد كانت المسيرة «بيضاء» بامتياز. وانتهى السير بالمشاركين أمام ساحة صغيرة في نفس الحيّ السكني حيث استمع المشاركون والمشاركات إلى ثلاث خطب قصيرة مليئة باللغة الخشبية لممثلين عن المنظمات النقابيّة. ومن الواضح أن حرصاً كبيراً على «عدم ازعاج نسق الحياة العادي» كان مهيمناً على المنظمين، لدرجة جعلت المسيرة تمرّ خفية. وكانت مسيرة 28 نيسان/أفريل «لا حدثاً» بامتياز، رغم كل البهرج الذي رافقها.
رُفِعَت التظاهرة بتقديم فرقة «راب» مكوّنة من مهاجرين من هاييتي، لبعض أغانيها. لكن سرعان ما انفضّ جمع المتظاهرين بمجرّد انطلاق الأغنية الأولى، ولم تنتهِ هذه الأغنية حتى لم يبقَ في الساحة أكثر من بضع عشرات. ولعلّ المسافة الاجتماعية والثقافية والسياسيّة الكبرى التي تفصل النقابات وجمهورها عن هذه الفرقة وعالمها هو أحد مبررات هذا الانسحاب الفوري، والمذهل.
النشاز الوحيد في هذه المسيرة هو مشاركة نقابة «أناركية» (فوضوية) وحزبَين شيوعيَّين في آخرها. ورغم أن عدد متظاهريهم كان صغيراً جدّاً مقارنة ببقية المشاركين، فإنّ رفعهم لشعارات جذرية معادية للرأسمالية والامبريالية الكندية كان واضحاً (خصوصاً النقابة الأناركية)، وجعل آخر المسيرة يعرف بعض التوتر مع قوات البوليس التي استهجنت الشعارات. وقد بدا واضحاً وجود توتر بين الطرفين، خصوصاً أنّ أكثر من نصف قوات الأمن المرافقة للمسيرة كانت تحيط بهذا الجزء منها، على الرغم من أن عدد هؤلاء المتظاهرين كان أقل من 1/10 من العدد الجملي للمتظاهرين.

التنظيمات الراديكاليّة: حبيسة «الهامشيّة»
في مقابل تظاهرة يوم الجمعة 28 نيسان/أفريل الفولكلورية، دعت تنظيمات مختلفة من اليسار الراديكالي إلى 3 مسيرات غير مرخّص لها، في يوم الثلاثاء الأول من أيار/ماي، تمكّنتُ من المشاركة في اثنتين منها بكل حماسة عوّضتني عن حالة القرف التي سيطرت عليّ منذ نهاية مسيرة يوم الجمعة. انطلقت المسيرة الأولى التي دعت إليها النقابة العمّاليّة «الأناركية» (التي سبق ذكرها) عند الساعة الرابعة. وقد سبقها تجمّع صغير تخلّلته أنشطة ثقافيّة متنوّعة. حضر هذه المسيرة قرابة 300 شخص أحاط بهم بضع مئات من قوات الأمن المدججة بمختلف أنواع العتاد. وكان الحضور شبابيّاً بالأساس. خُيّر المنظمون السير في أحد أحياء مونتريال حيث يتركّز المهاجرون كتعبير لتضامنهم معهم ضد الهجمات المتكررة التي يتعرّض لها طالبو اللجوء من تنظيمات أقصى اليمين والخطابات الشوفينية والعنصريّة التي تتصاعد على الإنترنت وفي وسائل الإعلام من قبل مسؤولين سياسيين. وقد كانت الأجواء حماسيّة مفعمة بمشاعر التضامن بين المضطهدين والمهمّشين، وركّزت الشعارات على الدعوة لإسقاط الرأسمالية ومعاداة النيوليبرالية والسياسات الاستعمارية ومعاداة الدولة الكندية كدولة قمعية رغم المظهر الديموقراطي الذي تسعى إلى إسباغ نفسها به. لكن اللافت للانتباه أن جداراً شفافاً كان يفصل المتظاهرين «الأناركيين» وغيرهم من أطياف اليسار الراديكالي عن سكّان الحي من المهاجرين. ففيما كان موكب المتظاهرين يسير، صاخباً بشعارات مثل «مرحبا بالمهاجرين، فلنطرد العنصريّين» و«ضد الرأسماليّة، ضد العنصريّة، ضد الاستعمار»، بقي سكّان الحيّ والمارون مكتفين بمتابعتهم من رصيف المشاة من دون الانضمام إليهم. صحيح أنّ البعض منهم رفع أحياناً يده تحيّة للمتظاهرين، أو عبروا عن مساندتهم بابتسامات ودّية، لكن ذلك لم يتحوّل قط إلى مشاركة فعلية، إذ بقي المتظاهرون من «البيض» حصريّاً (إذا استثنينا بعض الأفراد من الناشطين المهاجرين). يطول شرح هذه المفارقة ويتجاوز إطار هذا النص، ولن تفلح القراءات السطحية والأخلاقوية التي تلقي مسؤولية هذه القطيعة على «تخلّف المهاجرين وقلّة وعيهم»، في تقديم أي إضافة تذكر.
لم يتدخّل البوليس لمنع هذه المسيرة التي دامت قرابة الساعتين. بعد ذلك توجّه جزء من المتظاهرين مباشرة للالتحاق بالمسيرة الثانية التي دعا إليها ائتلاف «التقاطعات النضاليّة المناهضة للرأسمالية» المتكوّن من تنظيمات «أناركية» وشيوعيّة ويساريّة متنوعّة، عند الساعة السادسة والنصف في أحد شوارع وسط مونتريال. عكس المسيرة الأولى، التي رفع منظموها شعار السلميّة، اعتاد الائتلاف أن تتخلل تظاهراته مواجهات مع البوليس، تشرف عليها مجموعات «الكتل السوداء»، وهي قاعدة لم تشذّ عنها مسيرة العام الجاري.
فشلت تنظيمات اليسار الراديكالي في أن يكون لها حضور يذكر


كان منظمو المسيرة الثانية قد نسّقوا مع منظمي المسيرة الأولى كي تنطلق مسيرة الائتلاف في اتجاه نقطة وسطى تلتقي فيها المجموعتان لتلتحما في مسيرة موحّدة. لكن قوات البوليس فرّقت مسيرة الائتلاف بسرعة شديدة بعد بضع دقائق من انطلاقها، لتتحول بعدها الشوارع المجاورة إلى مسرح لمواجهات بين الأمن والمتظاهرين وساحات تلاحق فيها فرق التدخّل المحتجّين. لم تدم هذه المسيرة وعمليّة تفريقها أكثر من ساعة. وتجدر الإشارة إلى أنّ قوات البوليس لم تحتج إلى استعمال عنف كبير حتّى تسيطر على الوضع. وقد حسم عددها الكبير وسوء تنظيم المسيرة وضعف التنسيق بين مختلف المجموعات والتنظيمات وغياب ميكانيزمات ناجعة لقيادة المعركة الميدانيّة، الأمر لفائدة الأمن. بدا أيضاً واضحاً للعيان أنّ 300 متظاهر منقسمين على مجموعتين، ينتمي كل بضع عشرات منهم إلى تنظيم مختلف، غير قادرين في ظل ضعف التنسيق المسبق على خوض معركة جدّية مع طرف مقابل على غاية في التنظيم كبوليس مدينة مونتريال.
أمّا المسيرة الأخيرة في ذاك اليوم، التي لم أستطع بلوغها في الوقت المناسب، فدعا إليها الحزب الشيوعي الثوري ذو التوجه الماوي، بمفرده. وانطلقت عند الساعة السابعة قرب الساحة الماليّة وسط مدينة مونتريال. وقد لبى نداء الحزب مئة متظاهر تقريباً، لم تجد قوات الأمن، التي كانت تفوقهم عدداً بكثير، صعوبة تذكر في تفريقهم بعد 20 دقيقة تقريباً.
رغم كل مجهوداتها في تنظيم تظاهرات ذكرى اليوم العالمي للعمال في مونتريال، فشلت تنظيمات اليسار الراديكالي في المدينة، في أن يكون لها حضور يذكر لدى سكّان المدينة، حيث إن سكّان مونتريال لم يبلغهم من الأحداث غير بضع مقالات تلخّص التغطية المنحازة التي أولَتها وسائل الإعلام لها والتي صورت المحتجّين كعناصر همجيّين لا هدف لهم سوى التخريب، ولا رسالة لهم يبلّغونها للمجتمع. فشل اليسار الراديكالي المونتريالي إذاً في التأثير بالنسق العادي لحياة سكّان المدينة يوم «1 ماي»، وفشل في أن تكون أحداث «1 ماي» 2018 أحداثاً فارقة في تاريخ المدينة. والغريب أنّ الشوارع التي شهدت المواجهات والإيقافات عادت بعد نحو 15 دقيقة إلى رتابتها اليومية كأنّ شيئاً لم يكن، وهي نجاعة في القمع تُحسب لقوات الأمن في مونتريال! وقد دفعت تنظيمات اليسار الراديكالي في «1 ماي» 2018 فاتورة عزلتها المجتمعيّة الشديدة وهامشيتها السياسيّة ونخبويتها وعدم قدرتها على الحشد. وقد بقيت هذه التنظيمات طوال عقود حبيسة المجموعات الضيّقة والحميميّة، عاجزة عن الوصول حتّى بشكل ظرفي إلى الفئات التي تتبنى مطالبها بكل حماسة. وباستثناء المحطّات التاريخيّة الكبرى في تاريخ المدينة وتاريخ كندا (2012 و2015 خصوصاً)، فإنّ هامشية اليسار الراديكالي هنا تفوق حتّى عزلة نظيراتها في الدول العربيّة (وخاصة في تونس التي لي عنها دراية نسبيّة).