إن فعل الكتابة بالنسبة إلى المرأة، هو عمل تخريبي بحد ذاته؛ فعل من أفعال الثورة، تهرب به من واقع أقل ما يقال فيه بأنه مزيّف كونه استبدل القانون البشري السياسي الاجتماعي الاقتصادي، بقانون مقدس دينيّ عقائدي أبوي ثابت. لنصل ونتجرأ أن «نجندر العقل» وفعل الكتابة، فالأسلوب الروائي، فالصناعة الإبداعية ككل. لن تخرج صناعة الرواية عن هذا التزييف.
ولن نستطيع فهم أبعاد الأدب إلا من خلال الهيمنة الذكورية عليه، على صناعته، قرّائه، ناشريه، ناقديه، لتصبح الـ «أنا الذكورية» أحد أهم أسس الرواية. إن الرجل يكتب عن الرجل. عن نفسه. عن «أناه» المفردة. وحين يكتب عن المرأة، فهي امتداد لرغبته أو حاجته. وحين يكتب المدينة، فهو يكتبها مؤنثة، أمّاً كانت أم حبيبة، يكتبها وهو يعيد صياغة لعبة الجنس والقوة، في أسلوب ولغة الأدب، لعبة الفاتح، الفاعل، والمفعول به. أما حين تكتب المرأة، فهي تكتب عنه. عن «أناه» التي تتخبط حولها، عن توقعاته وحكمه عليها. تكتبه بطلاً، وتصنع منه ممارساً للحب، دونما أن يقع به، كما هي صورة الرجل المركبة في العالم العربي/ الإسلامي. وحين تكتب المرأة عن المرأة، تخرج بطلاتها مكحّلات بالرجال، يسبحن في فضاء المجتمع الأبوي الذي وضعهن في وكره، لا شيء فيه ملكهن هن، حتى خيالهن. فالرواية خيال ولغة. وخيالهن صنيعة رجل. لست بصدد التحدث عن الرواية النسوية. فهي بتركيبتها، فعل مناضل شرس، يخرج بأصوات يملؤها السخط والقهر والتوق إلى مجتمع أكثر عدلاً. فالرواية النسوية هي الأخرى فعل مضاد لأفعال الذكورية، بشتى أشكالها. هي رواية امرأة لا تريد الخضوع. لكنها رواية امرأة، تحارب رجل، لنعود ونسقط تحت هيمنته، حتى ونحن في قلب الحرب الضروس ضده.
إن الرواية فعل غير مجندر، كالكتابة. لكنها تسقط في هذا الامتحان، حين تكتبها امرأة، وحين يكتبها رجل، على حد سواء. الفرق بينهما هو الفرق ما بين الضحية والجلاد: كلاهما يتحدث عن الآخر، كلاهما يربط وجوده بوجود الآخر، ولكن الرجل، يصنع ويكتب وينشر ويكلل ويُبجل، أضعاف أضعاف المرأة.
يعود ذلك لأسباب عديدة، لا تحصى في مقال.
إن ألقينا نظرة سريعة على إصدارات دور النشر العربية اليوم، لن نحتاج إلى كثير من البحث لنلاحظ بأن رواية الرجل تتربع على عرش الرواية. وحين نقع على روائية تجرأت وكتبت، نقع على نص يبحث عن الرجل، يهرب منه، أو يضيع في سرداب البحث عن الـ «أنا» المرتبطة بـ «أناه»، أو يقع ضحية غطرسة المجتمع الذي يلويه لينصاع إلى أوامره، وليبقى «عاقلاً مقبولاً لا يثير البلبلة»، أو يثير الكثير من «الجنس»، كأفلام بورنو مكتوبة بالعربية (أذكر جمانة حداد مثلاً!). لست بصدد التعميم. هنالك من دون أدنى شك، استثناءات، روائيات استطعن التحرر من النظام الأبوي للفكر والخيال الأدبي، منهن: هدى بركات، انعام كجه جي، سمر يزبك...
«اكتبي الشعر» يقال لها. فلغة الشعر رومانسية وردية. أو ثائرة غاضبة حانقة حاقدة. لكن لا تتوجهي نحو الرواية، فهي عرش من عروش الرجل، مكان يجتمع فيه أهل «الكار»، ليتحدثوا عن أمورك، أو أمورهم، وهي من دون أدنى شك، لا تعنيك.
المشكلة تكمن في كل تلك الحروب التي ينبغي للمرأة العربية اليوم خوضها: فهي تحارب المجتمع بكافة مؤسساته، ومؤسسات صناعة الأدب هي مؤسسات ذكورية بامتياز، تلقي اللوم في تراجع قرائها على الوضع الاقتصادي والحروب التي يتسم بها العالم العربي، وتحارب نفسها كفعل تحدٍّ ومقاوم لكل الموروثات الواعية، واللاوعية. وإن استطاعت أن تكتب، تخرج روايتها كمخاض عسير، يتركها خائرة القوى، كأن فعل الكتابة تلك، يسرق منها سنواتها.
من يحدد ما إذا كانت رواية ما، تستحق التصفيق؟ النقاد الرجال.
من ينشر؟ دور نشر تبغى الربح، في نظام اقتصادي ذكوري أبوي ظالم.
من يكتب؟ رجال قيل لهم على مر التاريخ، بأنهم هم من يصنعون التاريخ، الأدبي منه على حد سواء.
فهل من الغريب أن تتراجع كتابات المرأة الروائية اليوم؟
فما بين الطوق لتحقيق الذات والـ «أنا» الضائعة، والمحافظة على «صورة مقبولة» في مجتمع لا يريدها إلا على صورة صنعها عنها، تضيع المرأة، ويضيع معها أدبها.
فالرواية ليست عنك، بل لك. لنا. لهن جميعاً. لهم جميعاً. وهي أعلى وأسمى من أن تجندر أو تقاس بمقياس رجل. وعلينا، نحن اللواتي بُنيت المنازل لتخفي عورتنا، وإثمنا، ودماءنا «النجسة»، أن نبحث عن الخيال غير المرتبط إلا بفردنا، وعن لغة خارجة عن الأنوثة فالأنثوية. لغة أخرى. نصنعها.
* باحثة وأستاذة جامعية