صفحات الإبداع من تنسيق: أحلام الطاهر
جورج تراكل
ترجمة عن الألمانية سوار ملاّ

وُلِدَ جورج تراكل (أو غيورغ تراكل كما يُلفَظ اسمه بالألمانية، لغته الأمّ) في الثالث من شباط (فبراير) عام 1887 في مدينة سالتسبورغ النمساوية، لوالدٍ كان يعمل في تجارة الحديد. ترعرعَ تراكل مع أخوته الستة عند مربيَّة فرنسيَّة تُدعى ماريا بورينغ التي نابت عن والدتِهم المدمنة على المخدّرات ماريا كاترينا تراكل. عن طريقِ المربيّة الفرنسية، تعرَّف تراكل على الأدبِ الفرنسي في بدايات تعرُّفه على الأدبِ، ويمكننا ملاحظة آثار هذا التعرُّف المُبكِّر من خلال تأثّره الواضح بكلٍّ من الشاعرين الفرنسيين آرتور رامبو وشارل بودلير. بين عامي 1897 و1905، زار تراكل الثانوية العامة في سالتسبورغ، غير أنَّه لم يوفِّق في إتمامها. عوضاً عن ذلك، اختار التعليم المهني في مجال الصيدلة، وتمكن من التخرّج بنجاح، ومن ثمّ أخذَ يفكِّر في دراسة الصيدلة في جامعة فيينا، وفعل ذلك. خلال فترة دراسته للصيدلة، بدأ بنشرِ قصائده بصورةٍ رسمية. بعدما تخرّج من الجامعة، انتقل للعيش في مدينة إنسبروك. خلال الحرب العالمية الأولى، عمل تراكل كصيدلانيّ عسكري. متأثِّراً بتجاربه الباكرة مع المخدّرات ومشاكله النفسيَّة وكذلك بأهوال وفظائع زمنِه، قرَّر غيورغ أن ينهي حياته في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1914 بتجرّع كمية كبيرة من الكوكايين.
يعدّ تراكل واحداً من أهمّ رموز التعبيريّة النمساوية، وقصائده لا تزال تلقى حفاوةً هائلةً بين محبّي الأدب والشعر.

أعماله الشعرية تُسلَّط النّور على الكآبةِ والحزن ومرارة العيشِ في عالمٍ شديد القسوة، وفي قصائده الثرية بالصور والمجاز تُطرَح أسئلةٌ وجودية عن الله والعدم والموت. في العديد من قصائده، يذكرُ الشّاعرُ الفذّ كلمة «الأخت» وثمة قصائد مهداةٌ بالكامل لها (للأخت)، وهذه الأخت هي شقيقته غريتا تراكل، عازفة البيانو التي كانت تربطها بأخيها الشاعرِ علاقةٌ بالغة الخصوصية، ويقولُ بعضُ المقرّبين إنَّها لم تكن علاقةً شرعيّة قطّ، حيث أنَّه كان قد عثرَ فيها على الجانبِ الأنثويِّ من ذاته. الخرابُ والزوال وأفول الغربِ، الخريف والليل، النّبيذ والألم، بذلك كلّه يذخر شعر تراكل.




«دنو الموت»

آهٍ أيُّها المساءُ
الذي يعبرُ قرى الطفولةِ الكالحةِ.
البركةُ الصّغيرة أسفلَ شجرِ الصفصاف
تمتلئُ بتنهداتِ الكآبةِ السّامة.

آهٍ أيَّتها الغابةُ
التي تُذلِّلُ بخفوتٍ العيون البنيَّة
حينَ يسقطُ من يدِ الوحيدين النحيلة
بنفسجُ أيامهم المُبهِجة.

آهٍ يا دنوّ الموتِ،
دعنا نصلِّي.
هذه الليلةِ، على الوسائدِ الفاترةِ، المُصفرةِ من آثار اللّبانِ،
ستفترقُ أجسادُ العاشقين الهزيلة.

غروديك

في المساءِ
تدوّي الأسلحة المُمِيتة
في الغابةِ الخريفيّة،
فوق الحقول الذهبيّة والبحيرات الزرقاء
تتدحرجُ الشّمسُ وهي تزدادُ ظُلمةً؛
يطوِّقُ الليلُ المقاتلين المحتضرين
والنواح المُنبعث من أفواههم المحطَّمةِ.
صامتةً تتجمَّع في أرضِ الصفصاف سحبٌ حمراء
آهلةٌ بإله ساخطٍ يسفكُ الدماءَ وبرودةَ القمر؛
كلّ الدروب تفضي إلى عفونةٍ قاتمة.
أسفل الأغصان الذهبيّة لليلِ والنجوم
تتموّجُ ظلالُ الأخت خلل الغابةِ الخرساء،
لتُحيّي أرواحَ الأبطالِ والرؤوس الدامية؛
خافتاً يرنّمُ المزمار المعتمُ من قصبِ الخريف.
آه أيُّها الحزن الشامخ!- أيَّتها المذابحُ القاسية الوقحة،
لهب الروحِ الحارّ يؤججه اليوم ألمٌ أكثر وحشيةً:
الأحفاد الذين لم يولدوا بعد.
*غروديك مدينة بولندية.

«السكينةُ والصّمت»

الرعاةُ يطمرون الشَّمسَ
في عراءِ الغابةِ.
صيادٌ يسحبُ القمرَ من البحيرةِ المتجمِّدةِ
في شِباكٍ من الشَّعرِ.
في الكريستال الأزرقِ
يقطنُ البشريُّ الشَّاحبُ،
مُسنِداً وجنتيهِ إلى نجمتِه؛
أو، ربّما،
يُنَكِّس رأْسَه خلال غفوةٍ بنفسجيَّةٍ.

دوماً، يلامسُ التحليقُ الحزينُ للطيورِ قلبَ النَّاظرِ،
والورودُ الزرقاءُ، المقدَّسةُ، تفكِّرُ في صمتِ ما انقضى لتوِّهِ، في الملائكةِ المنطفئةِ.

مرَّةً أخرى،
تبيتُ الجبهةُ في الصخرةِ المُقمرةِ؛
حين يصل الخريفُ، تتجلَّى الأختُ
شابةً نضيرةً
في ظُلمةِ العفنِ.

«في الخريف»

تبرقُ زهورُ دوار الشّمسِ على السياجِ
يجلسُ المرضى، صامتين، تحت أشعةِ الشَّمسِ
النساءُ يجهدن في الحقل منشداتٍ
وأجراسُ الديرِ القريبِ تُقرَعُ نحوهنّ.

الطيورُ تُخبر قصصاً خرافيةً
وأجراسُ الديرِ القريب تُقرعُ.
من السّاحةِ ينبعثُ رقيقاً صوتُ الكمانِ.
وها هم، اليوم، يعصرون خمراً.

ها الإنسانُ يبدو لطيفاً ومسروراً.
حجرات الموتى مفتوحةٌ على آخرِها،
يلوّنها بريقُ الشمسِ الساطعة.
وها هم، اليوم، يعصرون الخمرَ.

«الشمس»

كلّ يومٍ تشرقُ الشمسُ الصفراءُ على الهضبةِ.
رائعةٌ الغابةُ، رائعٌ الحيوانُ القاتمُ، والإنسان: صيادٌ أو راعٍ.

ضاربةً إلى الحمرةِ تبدو السمكةُ في البحيرةِ الخضراء.
هادئاً يعبرُ صياد السمكِ في قاربه الأزرقِ أسفل السماء الكرويّة.

بأناةٍ تنضجُ الأعنابُ، والحبوبُ.
آنَ ينحني النَّهارُ بخفوتٍ نحو نهايتِه
يكون الخيرُ والشرّ مهيَّئين.

لمّا يحلُّ الليلُ
يفتحُ المُسافرُ جفنيه المثقلين بوهنٍ؛
تنشطرُ الشّمسُ عن قعرِ وادٍ مظلم.