منذ «ثورة 30 يونيو» عام 2013، التي أفضت إلى تدخل الجيش المصري لعزل الرئيس «الإخواني» محمد مرسي، شهدت مصر، موجات متعددة، من الاعتقالات السياسية والأمنية، طاولت آلاف المصريين، الذين راوحت خلفيات توقيفهم، بين الضلوع في «أعمال الإرهاب والعنف»، وبين ناشطين على خلفيات سياسية...
أو حتى أشخاص أُلقي القبض عليهم عشوائياً دون أن يكونوا متورطين في أيّ جريمة، أو حتى ممارسين للعمل السياسي. وبعيداً عن الجدل السياسي والقانوني القائم بشأن تلك التوقيفات، ثمة تحوّل خطير، بدأ يرخي بظلاله على المشهد المصري، بعدما ثبت أنّ «عدداً من المعتقلين انتقل إلى تأييد تنظيم داعش، ومبايعة زعيمه أبي بكر البغدادي، وتبني خطابه التكفيري».
ليس الحديث هنا عن حالات فردية، بل ظاهرة تشي بأنها باتت تتفشى في السجون المصرية، ما دفع الكثير من المتابعين إلى اتهام الأمن المصري بـ«التواطؤ»، أو على الأقل «التقصير»، في انتشار هذا الخطر.
يروي «مصطفى» ــ اسم مستعار لدواعي أمنه الشخصي ــ وهو أحد السجناء السياسيين الذين أُطلق سراحهم أخيراً، في حديث إلى «الأخبار» تجربته داخل السجن، وبعضاً من تفاصيل ظاهرة «تخريج الدواعش»، بالقول: «بعد القبض عليّ، رُحِّلتُ إلى سجن القناطر. كنا عدداً من التيار المدني، ووُزِّعنا على عنبرين اثنين، فيما كان باقي السجناء محسوبين على تيار الإسلام السياسي أو شباب غير مسيس نهائياً، إلى جانب بعض الإرهابيين المتورطين في عمليات قتل». يضيف أنّ «الموقوفين، بأغلبهم، لم تكن لهم علاقة بأي شيء، أو كما نقول بالمصري: لا ليهم في الطور ولا في الطحين... وأمّا الدواعش، أو سمّيهم كما شئت، فقد سارعوا إلى تولية أمير لهم، ووضعوا نظاماً للعنبر يتعلق بمواعيد الاستيقاظ والنوم والقيلولة والدروس وممارسة الرياضة والتدريبات على الفنون القتالية، كذلك حددوا عقوبات لمن يتخلف منهم عن تكبيرة الإحرام في الصلاة، وكانت لهم حلقات دعوية يرددون فيها أنّ الديموقراطية كافرة، وكذلك القوانين الوضعية، ويكفّرون من يلجأ إليها، إلى جانب اعتبارهم أن المجتمع كافر ومشرك لأنه يحكم بغير ما أنزل الله».
علاوة على ما سبق، يشير «مصطفى» إلى أنّ الحلقات الدعوية للتكفيريين داخل السجون تتضمن «التحريض على قتال المشركين، مثل العاملين في الدولة، والتحريض الدائم على المسيحيين (الصليبيين على حد تعبيرهم)، وتبرير اغتصاب نسائهم، وقتل أطفالهم وهدم كنائسهم»، فيما تشمل «خطبة الأمير» أخباراً مهرّبة عن تنظيم «داعش» في سوريا والعراق وسيناء وأوروبا، وإثر ذلك «يُوزَّع بعض الكتب المهربة والدروس السمعية عبر جهاز (أم بي 3) يتداولونها حتى صلاة العشاء».
يتحدث «مصطفى» عن مراحل استقطاب «الدواعش» لأعضاء جدد من السجناء، فيقول: «عادة ما يجدون غايتهم في الشباب القادم من مراكز التحقيق، فبعد التعرض لظروف قاسية، مثل الاختفاء القسري والتعذيب والإجبار على الاعتراف، والتعرّض لمحاكمات مسيسة تُجدد لهم الحبس الاحتياطي دورياً، أو تنزل بحقهم سنوات سجن طويلة، تصبح الحالة النفسية لهؤلاء الشبان سيئة، فيصبحون أكثر جاهزية لمعاداة المجتمع، وهنا يأتي دور مشايخ الدواعش الذين يقنعونهم بكفر المجتمع، ووجوب قتاله فور الخروج من المعتقل». بعد مرحلة الإقناع، يلفت الشاب نفسه، إلى الوصول إلى مرحلة «تهيئة الشاب المستقطَب، وتسليحه أولاً بالعلم الشرعي، فإذا كانت حياتهم ستنتهي في هذا السجن، فالأفضل لهم أن تنتهي بهم إلى الجنة»، على حدّ تعبيرهم. إثر ذلك، تأتي المراحل اللاحقة، إذ «يبدأ الشاب في الانخراط في حلقات الخطب والتدريبات والاستماع والقراءة لمنهجهم، والتحول تدريجاً حتى يُصبح واحداً منهم».

في «سجن طرة ــ تحقيق»، وجد سمير نفسه مُحاطاً بعدد كبير من «الجهاديين»

ثمة ملاحظة مهمّة يسجّلها «مصطفى» بشأن هؤلاء الشبان المُستقطبين، فغالبيتهم «لم تكن تؤدي حتى العبادات الأساسية مثل الصلاة والصوم، وكان بعضهم يدخن السجائر، وربما كان يتعاطى المخدرات، وقت القبض عليهم، ثم يتساقطون واحداً تلو الأخر في الشباك الداعشية». ويشير إلى أنّه «بعدما كان أكثر من نصف الشباب في العنبر غير مُسيّس، وليست له علاقة بما يحدث، صار أكثر من 90 في المئة منهم ينتمون تماماً إلى فكر داعش في غضون شهر واحد»، مضيفاً أنه «بعدما كان الدواعش موجودين في عنبرين اثنين فقط، أصبحوا يملأون أربعة عنابر، في غضون ستة أشهر». ويختم قائلاً: «لقد باءت كل محاولاتي أنا وأصدقائي في العنبر الآخر بالإخفاق في وقف ذلك الخطر، خاصة مع عدم استجابة إدارة السجن لطلباتنا، إذ رفضت على سبيل المثال إيداع غير المُنتمين إلى داعش في أحد العنابر الخالية، وإدخال كتب سياسية ودينية للرد على هؤلاء التكفيريين».
من جهة أخرى، يؤكد السجين السياسي السابق لؤي القهوجي، في حديث إلى «الأخبار»، أنّ ظاهرة «تجنيد الدواعش» تنتشر «بشكل كبير»، لكنّه يستدرك بالقول إنّ ذلك يجري «من دون علم أجهزة الأمن، أو أي تدخل منهم».
ويوضح القهوجي أنّ «التعامل داخل السجون يجري بواسطة شرطة السجون، وهؤلاء لا يهمهم انتماؤك، سواء كنت داعشياً أو يسارياً، فكلّ ما يسعون إليه هو عدم حدوث أيّ اضطرابات داخل الزنازين». ويقول: «إنّ الاستقطاب يبدأ بنحو شبه تلقائي بسبب الظلم الواقع على الكثيرين داخل السجون، فمعظم من قابلتهم كانوا من دون انتماءات، غالبيتهم من البسطاء، ولكنهم كانوا مسجونين في أماكن بعيداً جداً عن ذويهم، ويقع عليهم ظلم كبير».
ويروي السجين السابق أنه «عندما كانت تأتي الأخبار عن عمليات إرهابية في العراق أو سوريا، كانت الفرحة تعمّ الغالبية العظمى من متبنّي الفكر الداعشي، وكذلك السجناء الذين لا يحملون تأصيلاً فقهياً، ولا يمتلكون أيّ أسانيد شرعية»، عازياً السبب في ذلك إلى «الموقف من الظلم الذي يرونه، إضافة إلى موقفهم المسبق من نظامي (الرئيس عبدالفتاح) السيسي و(الرئيس السوري) بشار الأسد على سبيل المثال».
ويشير القهوجي إلى أن «الاستقطاب من خلال عناصر الدواعش الأصليين، الذين ينخرطون في حوارات مع السجناء الجدد، غالباً ما تشمل مقارنات بين ما يحققه تنظيم داعش من عمليات كاملة أو من طريق الذئاب المنفردة، وبين فشل تنظيم الإخوان المسلمين الذي يتبنى السلمية (بحسب تعبيرهم)... ثم ينتقل الحديث عن الآيات والأحاديث والتأصيل الفقهي، ومن خلالها تكون مرحلة الإقناع بأن ثمة حرباً على الإسلام، ومداعبة الخيال بحلم الخلافة، التي لا يمكن أن تتحقق إلّا بحمل السلاح، فضلاً عن الإغراءت المعروفة بالجواري والغزوات والغنائم».
ووفق القهوجي، تُساهم تلك النقاشات في «ترسيب الأفكار المتشددة في لاوعي الأفراد، على نحو يدفع إلى التعاطف مع العمليات الإرهابية، التي تنفّذ ضد ضباط الشرطة والجيش والقضاة، الذين يرونهم بالأساس مسؤولين عن الظلم الواقع عليهم». وفي ما يتعلق بإدخال الكتب والمنشورات إلى داخل السجون، يقول: «ثمة تساهل مع كل الكتب الدينية على اختلاف أشكالها مقارنةً بالكتب الثقافية أو السياسية، حتى إنني أخفقتُ أكثر من مرة في إدخال كتاب "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية، لإدواردو غاليانو"، على سبيل المثال».
ويرى القهوجي أنّ ما يجري «ليس حالات فردية، بل ظاهرة تنتشر بنحو كبير وواسع جداً، وكنت شاهداً عليها في السجون الثلاثة التي دخلتها، وهي سجن الحضرة وبرج العرب وجمصة، حتى خروجي في شهر آذار/مارس الماضي».

«تعزيز الإرهاب»... منهجياً؟

أنس سيد، وهو المحامي والحقوقي بالمفوضية المصرية للحقوق والحريات، يروي في حديث إلى «الأخبار»، أنّه كان خلال السنوات الأخيرة، شاهداً على تحوّل العشرات من المتهمين الذين كانوا بعيدين كل البُعد «عن الأفكار الجهادية، إلى دواعش»، يرددون ما يقوله التنظيم الإرهابي عن تكفير المجتمع. ويوضح أنّه كان موّكلاً عن بعض هؤلاء، ويطلق على أحدهم اسم «سمير»، كاسم مستعار، ليسرد قصته، بداية من اعتقاله في 30 حزيران/يونيو عام 2013، يوم كان أحد أفراد مجموعة جهزت نفسها لمواجهة جماعة «الإخوان» في حال نشوب مواجهات بين أفرادها والمتظاهرين المناهضين لحكم الرئيس المعزول محمد مرسي.

كان بعض الموقوفين يرون أنّ «الدواعش» يُمثِّلون طريق الخلاص من حكم السيسي


يشير سيد إلى أنّ تحريات جهاز الأمن الوطني ذُكر فيها أن «سمير» لا ينتمي إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، ولكنه صُنّف ضمن «العناصر التخريبية»، بعدما قُبض عليه أثناء مشاركته في تجهيز قنابل بدائية لاستهداف أعضاء جماعة «الإخوان» في حال نشوب مواجهات معهم. يضيف أنّه «داخل جدران سجن طرة ــ تحقيق، وجد سمير نفسه مُحاطاً بعدد كبير من التنظيمات الجهادية التي تتبنى فكر تنظيم داعش، وأخذ في التحول تدريجاً، حيث بدأ الأمر بتوقفه عن التدخين، ثم الانضمام إلى المتشددين في صفوف الصلاة وحلقات الدعوة».
يلفت الحقوقي أيضاً إلى أنّ الأمر اتضح جلياً بعد الحكم على «سمير» بالسجن لمدة عشر سنوات، حيث اتصل والده ليقول إنّ ابنه أصبح «داعشياً»، وذلك «بعدما كفّره، هو وباقي أفراد أسرته، حتى أنه رفض تقديم طعن على الحكم الصادر بحقه، باعتبار أنّ ذلك من الأعمال الكفرية، لاستنادها إلى طاغوت القانون الوضعي».
يرى سيد أن ما حدث مع «سمير» يُظهر سهولة استقطاب عناصر «داعش» للعشرات داخل السجون، مشيراً إلى أن الحالة المذكورة، تنطبق تماماً على حالة سجين آخر، كان يعمل صحافياً، رفض توكيل محامين للدفاع عنه، باعتبار أنهم «يمتثلون لقانون وضعي كافر»، حتى إنّه قال للمحامي في آخر لقاء معه: «أنت خصيمي يوم القيامة»!
يستبعدُ الرجل الحقوقي «ألا يكون للأمن المصري علم (بعمليات التجنيد داخل السجون)، خاصة أنّ كل أماكن الاحتجاز حالياً تخضع لإشراف جهاز الأمن الوطني». لا بل إنّه يتحدث عن «تسهيلات عدة تُقدَّم إلى العناصر الخطيرين والمنتمين إلى التنظيمات الإرهابية مقارنة بباقي السجناء السياسيين»، سواء من خلال رفض عزل السجناء المتشددين، أو غض الطرف عن إدخال كتب التكفير مثل كُتب ابن تيمية، «بينما تُمنَع الكتب الأخرى والصحف عن المسجونين السياسيين». وبرأيه، إنّ «هذا الأمر يحصل منهجياً لتعزيز فكرة وجود الإرهاب الذي يُسوّق النظام أنه في حرب معه يستمد منها شرعيته».
يتفق الدكتور طاهر مُختار، المعتقل السياسي السابق، مع القائلين بأنّ تلك الظاهرة تتفشى سريعاً داخل السجون، إذ يقول إلى «الأخبار» إنّ «كثراً كانوا بالفعل ينساقون خلف هؤلاء الدواعش داخل سجن طرة ــ تحقيق، الذي كان فيه، بينما كانت تأتينا الأخبار بأن الظاهرة تنتشر بشكل أكبر وأسرع كثيراً في سجن طرة ــ استقبال»، وذلك خلال الفترة التي كان مسجوناً فيها بين كانون الثاني/يناير وآب/أغسطس عام 2016». ويشير إلى أن «غالبية الدواعش الجدد» كانوا «من المقبوض عليهم عشوائياً، ولا يحملون أي فكر سياسي، ولكن تحوّلوا إلى المواقف الأكثر تطرفاً نتيجة الظروف القاسية داخل المعتقلات».
ويقول مختار إنّه لاحظ «بالفعل» أن معاملة الأمن «للدواعش» كانت أقل سوءاً قياساً بمعاملة بقية السجناء السياسيين من «الإخوان» وغيرهم، لكنه لا يُجزم بأنّ ذلك يحصل منهجياً من قبل الأمن، الذي يعرف نوعية السجناء جيداً. يوضح: «ربما كان ذلك لعقيدة في نفس الأمن، يرى من خلالها أن الأخطر على الدولة هم أصحاب الفكر السياسي القادرون على قيادة وتحريك الجماهير، والذين تُمنَع عنهم الكتب والروايات وكتب تعليم اللغات وغيرها، ويرى بالتالي أن الإرهاب أقل خطراً منهم، بجانب استفادة النظام القائم من وجودهم».
أمّا عمر حازق، وهو سجين سياسي سابق في «سجن برج العرب» في مدينة الإسكندرية، فيقول إلى «الأخبار» إنّ هذا الأمر كان له شكل مختلف في الفترة التي قضاها داخل السجن من كانون الأول/ديسمبر عام 2013، وحتى أيلول/سبتمبر 2015، موضحاً أنه «لم يكن هناك وجود بالأساس لأعضاء من تنظيم الدولة الإسلامية حتى يجري الاستقطاب، ولكن مع ظروف السجن الصعبة، بدأ الكثيرون، من غير المنتمين إلى تيارات بعينها، أو بعض المتعاطفين مع التيار الإسلامي، أو حتى الذين قُبض عليهم عشوائياً ولا علاقة لهم بالسياسة، في التعاطف مع الدواعش، والتعبير عن الفرح تجاه عملياتهم، خصوصاً مع حملة القمع الشديد التي بدأت مع تولي مجدي عبد الغفار وزارة الداخلية، حيث كانوا يرون أنّ (الدواعش) يُمثِّلون طريق الخلاص من حكم السيسي، حتى إنّ بعض النقاشات بشأن قتل الضباط والجنود والمدنيين الأبرياء كانت تذهب باتجاه أنّ ذلك يُعدُّ ظلماً أهون من ظلم أكبر يُمثِّله السيسي ونظامه».




أفكارٌ «سريعة»... بحثاً عن حلول

المحامي والباحث الحقوقي مختار منير، يرى في حديث إلى «الأخبار»، أنّ «خير وسيلة لوقف تلك الظاهرة ومحاربتها تبدأ بالزيارات العائلية، التي يمكن أن تحمل أثراً مهماً في حماية بعض الضحايا»، ضارباً على ذلك مثال موكله الطفل الصغير آسر زهر الدين، الذي حاول «الدواعش» استقطابه ونجحت أسرته في حمايته من الانسياق. ويشدد على أهمية «اتخاذ تدابير أكثر حرصاً من قبل الدولة بتخصيص سجون للدواعش، وتفعيل لجان متخصصة في محاربة ذلك الفكر، بحيث تشمل أطباء نفسيين واختصاصيين اجتماعيين ومحامين حقوقيين ومشايخ وقساوسة ورياضيين وفنانين، وتتضمن جلسات مستمرة لمناقشة المتشددين وتشكيكهم في أفكارهم وإعادة دمجهم، وقبل كل ذلك وقف التعذيب والظروف السيئة وإعلاء كلمة القانون في الاحتجاز والحبس الاحتياطي».