ثالوث دوستويفسكي المقدس
علاقات فيودور دوستويفسكي الغرامية كانت أشبه برواياته: معقدة ومليئة بالتوترات النفسية، ويبدو فيها كاتب «الأخوة كارامازوف»، كما أبطاله تماماً، حين يهب عشيقاته كيانه كله. واحدة فقط من المحبوبات الثلاث ماريا وأبوليناريا وآنا، ستجيد زرع السلام والطمأنينة في الروح الحائرة للكاتب الكبير.

- ماريا... الحب الأخوي

عائداً من سنين أربع من الأشغال الشاقة، كان دوستويفسكي بأمس الحاجة الى الرعاية والاهتمام. وضع القدر في طريقه ماريا آساييفا، المتزوجة من موظف صغير مصاب بمرض عضال انتظر دوستويفسكي موته بصبر. ماريا في رسائلها كانت تطلب منه أن يجد لها رجلاً هرماً وثرياً لترتبط به. على قلة دخله، يتزوج فيودور ماريا عام ١٨٥٧، لكنه سيكون لها ولولدها أقرب الى الأخ والحامي من الزوج والحبيب. لا يتفق الثنائي البتة على الصعيد الفكري والجسدي. حتى آخر يوم في حياتها (١٨٦٤)، بقي الزوجان مرتبطين بوشيجة من العذاب المتبادل أكثر من الوئام والحب. ملامح ماريا سيستعيدها دوستويفسكي في «مُذَلون مهانون» ليرسم شخصية ناتاشا، تلك المرأة التي تعاني ألماً لا يحتمل وتحب بتفانٍ مطلق.

آبوليناريا... الحب الخالد

عرف دوستويفسكي الطالبة آبوليناريا سوسلوفا أثناء إحدى قراءاته العامة. كان له من العمر ٤٢ عاماً ويكبرها بأعوام عشرين. أعطت الفتاة الشابة لفيودور ما كان يفتقده في ماريا: تقاسمت معه ذوقه الأدبي والفراش في علاقة سرية حيث أنه كان لا يزال متزوجاً بماريا. لم تكن آبوليناريا فتاة رقيقة ومسالمة. بل كانت ـــ بحسب مؤرخي الأدب في تلك المرحلة ـــ جموحة وشبقة ووقحة. انقطعت علاقة الثنائي بفعل سلسلة من الخيانات المتكررة من قبل العشيقة التي لم تعد مراهقة صغيرة تعود في كل مرة الى الكاتب، لتخبره كذلك أنّها لن تتزوجه أبداً. قد تكون سوسلوفا تسببت في الألم الأعظم لدوستويفسكي، ولكنها طبعت روحه الى الأبد، وستتقمص روحها الكثير من بطلاته، من «دونيا» المتهورة في «الجريمة والعقاب»، الى «ناستازيا فيليبوفا» الجموحة في «الأحمق»، و«ليزا» المعتدة بنفسها والغضوبة في «الشياطين»، لكنها أكثر ما تظهر في «بولينا»، بطلة «المقامر».

آنا... الحب السعيد

كانت آنا سنيتكينا تعمل كناسخة ومساعدة لدوستويفسكي أثناء كتابة «المقامر»، الرواية التي تعدّ بمثابة مفترق طرق للمراحل العاطفية الكبيرة في حياة دوستويفسكي. حالة شغف أصابت الثنائي بحيث لم ينفصلا البتة لأيام متتالية، ليتزوجا بسرعة عام ١٨٦٧، بسبب حاجة الكاتب الملحة للثبات والتوازن بعد علاقته العاصفة بآبوليناريا. أربعة عشر عاماً من الحياة المشتركة، ستقطع آنا في مطهر العذاب مرات عديدة: من موت ولديها الاثنين، الى غيرة زوجها وادمانه للقمار، لكنها ستنتصر وتبقى صديقة دوستويفسكي حتى رمقه الأخير، ربما لأنها الوحيدة التي قَبِلها كما هي، من دون إرادة منه بتغيير مشاعرها وطباعها، كان معها لا يلعب بالحب كما يلعب بالورق.

فيرجينيا وولف: اهجري صديقك لأخبرك عن الآلهة

حين التقت فيتا ساكفيل ـ ويست بفيرجينيا أثناء عشاء لدى قريب، كانت فيتا أكثر شهرة ككاتبة (أرقام مبيعات كتبها كانت أعلى من فيرجينيا وولف). أنيقة، مثيرة وارستقراطية. فيتا المتوسطة الجمال، كانت قد اتخذت من المغامرة أسلوب حياة، بدءاً من السفر الدائم للمتعة (اسطنبول، امستردام، الرباط، برلين، باريس) الى إغواء الرجال والنساء معاً (جيوفري سكوت، فيوليه تريفوزيس وغيرهما). فيرجينيا من جهتها كانت قد خبِرت الحب المثلي مع ماغدا فوكهام وفيوليت ديكينسون، ولكن ليس بعد ارتباطها بليونارد وولف بزواج أبعدها عن الجو الحسي اللندني الذي أحاط بطفولتها، بسبب أمها جوليا التي توفيت باكراً وجسّد جمالها الكثير من الرسامين. صدمت فيتا بنقاء وحساسية فيرجينيا، لتتوالى رسائلها إليها بعد هذا اللقاء الأول. رسائل مسهبة، حادة، مفعمة بالمناظر والألوان، تتخلى بعدها فيرجينيا عن خجلها شيئاً فشيئاً، لتتصاعد الجرأة عبر تفاصيل جسدية ونفسية أكثر حميمية في رسائل فيتا التي ستصبح عشيقتها في ليلة من كانون الأول (ديسمبر) ١٩٢٥. تخطف فيتا فيرجينيا من عيادة للعلاج لتصطحبها إلى منزلها في لونغ بارن. رسائل تلك الفترة بين العاشقتين، مفعمة بالفرح كأنهما معاً قد توصلتا الى العثور والسكنى في أماكن وأزمنة الطفولة. في صفحة من دفاتر يومياتها بتاريخ ٥ تشرين الأول (أكتوبر) ١٩٢٧، تبدي فيرجينيا حزنها لاختفاء فيتا، التي يبدو أنها وجدت في الفاتنة ماري كامبل عشقاً بديلاً. أيام ثلاثة قبل تلقيها رسالة من فيتا تطلب منها الصفح، شرعت فيرجينيا وولف بكتابة «أورلاندو»، الرواية التي ترمز الى حبها لفيتا والمحطة الأخيرة التي ستطبع حياتها المأساوية. تروي «أورلاندو» قصة مراهق من انكلترا الاليزابيثية (١٥٨٦)، يقطع قروناً ثلاثة من التاريخ (حتى ١٩٢٨)، لتسكن روحه أحد اللوردات، ومن بعدها يكون سفيراً في تركيا، وفرداً من قبيلة، ثم يتقمص امرأة أديبة في انكلترا الفيكتورية. صممت وولف أمكنة وأزمنة الرواية مستندة الى تفاصيل زودتها بها فيتا من ألبومها الفوتوغرافي، وحكايات أجدادها، وبيتها العائلي الساحر التي لم ترثه كونها أنثى. فيرجينيا التي كتبت مرة لفيتا: «اهجري صديقك ولنذهب الى هامبتون كورت، نتمشى قرب النهر، نشرب ونثمل، وأخبرك عن الآلهة التي في رأسي التي يوقظها الليل»، لن تطلع صديقتها على الرواية إلا بعد نشرها. في رسالة أخيرة الى فيتا، مؤرخة في ٢٥ آذار (مارس) ١٩٤١، لن تذكر فيرجينيا أيضاً لملهمتها أنها ستموت عند النهر، بعد أيام ثلاثة، بجيوب مثقلة بالحجارة.

غالا... مدوّخة السورياليين

ولدت إلينا ايفانوفا دياكونوفا المعروفة باسم غالا، عام ١٨٩٤ في قازان في روسيا. تلقت تعليماً سيسمح لها بسلوك مهنة التعليم، ليسوقها القدر، بفعل سل رئوي حاد الى مصح كلافاديل في سويسرا. هناك، ستلتقي بشخص اسمه أوجين غرينديل، سيعرف لاحقاً باسم أكثر رومانسية، هو بول إيلوار. «يوماً ما، ستكون شاعراً كبيراً!». عند الزواج عام ١٩١٧، تتحول غالا من الأورثوذكسية الى الكاثوليكية ويتلقى بول مناولته الأولى. يلتقي الثنائي بعدها بماكس ارنست وزوجته لو. يقع ماكس في غرام غالا وتجد لو نفسها مباشرة خارج المجموعة، وبحسب كلماتها «يتعايش الثلاثة (بول ايلوار وماكس ارنست وغالا) في نوع من المساكنة برضى ايلوار». مثل دالي الذي سيأتي بعده، يرسم ماكس ارنست غالا في معظم لوحاته، ليطرده ايلوار من قلبها الى الأبد: «حبيبتي، آه يا حبيبتي، تمنيت أن أخسرك»، ويعيد اللُحمة الى علاقته بغالا، التي ستهجر ارنست بعد فترة وجيزة. عام ١٩٢٩، في مسقط رأسه كاداكيس، القرية الإسبانية الصغيرة ذات البيوت البيضاء التي تشرف على البحر، سيلتقي سلفادور دالي بإيلوار وغالا. حكمت غالا على دالي بداية بأنّه مقزز ولا يُحتمل. كل ما يفعله دالي كان خارجاً عن المألوف: يجرح جسده بالمشارط، يقفز بحركات بهلوانية غريبة، يرسم بطريقة أغرب، ويتعطر بغائط الماعز ويقع في غرام ظهر غالا العاري. يدخل الثنائي في علاقة ستستمر لـ ٥٣ عاماً. «إنها في الوقت ذاته ملهمته وأمه، كانت تسكن خاطره، وتحميه وتنتزعه من رعبه ووساوسه» تكتب ليتيسيا سيناك في مؤلفها عن حياة دالي. «كانت أيضاً مديرة أعماله وهي التي توقع عقوده» كما يذكر براساي في مذكراته. رفضت غالا على فراش موتها عام ١٩٨٢ أن ترى سيسيل، ابنتها من ايلوار، ليعيش دالي بعدها سبع سنوات في صمت مطبق. هو الذي خطّ في كتابه «أنا والسوريالية» بعضاً من تفاصيل العلاقة المجنونة بين الحبيبين: «حتى الثانية صباحاً، كنت لا أزال أعمل على اتقان ساعتي المائية بإضافة ستين محبرة ملونة بالألوان المائية الى أوراق اللعب، ثم خلدت في النوم. ولكن في الخامسة صباحاً، كانت أعصابي المشدودة توقظني وكنت أتصبب عرقاً مكدوداً، بداخلي أنفاس ندم. عقلي كانت تثيره صور غالا معبودتي، وانطلقت نحو المستشفى... دخلت غرفة غالا لآخذ كفنها بكل الرقة في العالم، وقلت في نفسي: الآن غالوشكا، استطيع قتلك!».

المراجع:

Dostoïevski, mémoires d›une vie, Edition Memoire du Livre 2001
Correspondance 1923-1941-Vita Sackville-West et Virginia Woolf-Livre de Poche, 2013
أنا السوريالية، سلفادور دالي، ترجمة أشرف أبو اليزيد، كتاب دبي الثقافية، ٢٠١٠.