هو لقاء صدفة جمعني بمن كان يوماً ما تلميذا علّمته من الصف الخامس حتى تخرجه من الصف الثاني عشر. التقيته بعد عشرة أعوام مهندساً ورجل أعمال، بصحبة زوجته وابنه الصغير يستعد لسنته الأولى في المدرسة. استوقفني تلميذي فسألني «أستاذ أي مدرسة تنصحني لابني؟ أنا محتار وأريد مدرسة لا أندم عليها». طالت الإجابة كما عادة المعلّمين، ومن ضمنها دسست عبارة «مدرسة للمستقبل». انتهت النصيحة. سأل سؤاله الأخير «أستاذ، ماذا تقصد بمدرسة المستقبل؟».
هذه المرة كان تلميذي هو من يعطيني فرضاً منزلياً، بعدما اكتشفت أن الإجابة أعمق من أن تدرك في وقفة سلام وكلام.
«مدرسة المستقبل». قد أكون من أولئك الذين عندما نقرأ ذلك التعبير، فإن أول صور تتبادر إلى الذهن هي صورة تتضمن شبكات وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والهواتف النقالة، أنظمة ادارة التعليم (LMS)، الإنترنت، أدوات الويب، والرسوم المتحركة، وأشرطة الفيديو، والمتصفحات، الكتب الرقمية وغيرها.
وقد استحضر بقدر من الترف الفكري، كبعض التربويين المطلعين، إلى الصورة مقاربات ونظريات تربوية حديثة للتعليم مثل STEM (علوم – تكنولوجيا – هندسة – رياضياتScience, Technology, Engineering, Mathematic)، التعلّم المعتمد على حل المشاريع (PBL)، التعلّم المعتمد على التحقيق (Inquiry Based Learning)، التعلّم المُشَخَّص (Personalized Learning)، تقاطع المناهج، الإدماج، وغيرها الكثير.
النتيجة: خلطات تربوية أصبحت مثل الأطعمة الأجنبية في بلادنا، أسماء جميلة بلا طعم مميّز. والدليل العشرات من المراجع والتقارير المكتوبة والمرئية والمقالات والنظريات المليئة بالمعاني والمرادفات الكلامية، مع شعور كبير من عدم الوضوح وخصوصاً في ما خصّ التطبيق العملي ومؤشرات النجاح.
في جلسة العصف الذهني التي أخضعت نفسي لها لتفسير رؤية «مدرسة المستقبل»، استحضرت تجربتي في التعليم والمشاركة في تصميم المناهج ومؤخرا، العمل كمستشار تربوي للإدارات التعليمية في كيفية استخدام تكنولوجيا التعليم. وصلت إلى رأي أن الحديث عن مدرسة المستقبل في جوهرها تتعلق بالمبدأ والنظرية وتحديداً ما يخصّ الغايات والمناهج ولا تتعلّق بالتجهيز والتقنيات. حددت بعدين للنقاش وتفنيد الإجابة: المعلّمين والهوّة الرقمية، وفهم التغيير ودور التكنولوجيا بتصميم منهاج المستقبل.
فتعبير «الهوة الرقمية» انتشر بشكل واسع في أواخر التسعينيات، وفي السابق، كانت الهوة الرقمية تُعَرَّف بالفارق المهني التقني بين المعلّم والمتعلّم، حيث المتعلّم يسبق المعلِّم كما ونوعا في استخدام التكنولوجيا بمختلف أشكالها. مع مرور الوقت، ضاقت الهوة التقنية، ولم يعد هذا التوصيف اليوم دقيقا. فالهوة لم تعد هوة استعمالية وتقنية بل تحوّلت لتصبح هوة ابتكارية ومعرفيّة بين متعلّم وآخر بمدى تصرّف ذلك المتعلّم وفي مدى الإنتقائية واستغلال الفضاء الرقمي اللامحدود للإبتكار والإبداع والتعبير عن النفس. تضج مواقع الإنترنت بمواد فيديو ومدونات لمن هم تحت العشرين عاما بمختلف المواضيع الثقافية من فنية وأدبية وعلمية واجتماعية. وفي ذلك قيمة تربوية تتعلّق بمفهوم تعدد الذكاءات ومدى أهميته في تصميم المناهج. فأين المعلّم من ذلك؟
من هنا، فإن التفاوت في التجربة ومدى التعرُّض لدى المتعلِّم فرضت أرضية غير مستوية ولا يصلح تصميم التعلّم بغايات ومناهج تسعى وراء تحقيق كفايات المعارف والمهارات للمادة من دون وضعها في الأفق المتسع يوميّا للمتعلّم. وبذلك لا بد من تصميم مدرسة المستقبل عن طريق العودة من المستقبل.
التغيير يجب أن يبدأ في مفهوم المنهاج، فبالرغم من اننا لا يمكن إنكار العديد من المحاولات والتجارب في بعض المؤسسات القادرة لإحداث تغيير، إلا أننا وبالعودة إلى الواقع وإلى داخل جدران الصفوف، لا زال كل شيء مدين لفلسفة المدرسة السلوكية بكل تجلّيّاتها، كل شيء في جوهره ما زال على الهيئة الأولى. استثمرت العديد من المؤسسات التربوية القادرة قدرا ملفتا من حيث التجهيز المكاني والمعدات والبرمجيات. واللافت هو أن الهدف الرئيس دائما تطوير جودة التعليم وتحسين أداء المتعلّمين، إلا أن النتائج الملموسة لا تعكس تغييرا ايجابيا كبيرا لأنها لا تزال تقيس على علامة التحصيل في المادة، وما اختلف هو أن المحتوى انتقل من المطبوع في كتاب إلى مطبوع على الشاشة. والأكثر، تحوّلت الإختبارات من ورقة وقلم إلى أسئلة تفاعلية لا تختلف في المضمون أو الشكل عن الأصل الورقي. أكثر من ذلك، أصبحت الوسائل التعليمية معتمدة على اللوح التفاعلي بدل اللوح الجامد والطبشورة. ذلك كله ساعد في تسريع بعض الإجراءات اللوجستية، لكنه لم يدخل تغييرا نوعيا يؤشِّر إلى تطور نوعية التعليم وتحسين الأداء. هنا لا بد لي من أن أذكِّر أن كل نشاط تعليمي هو تنفيذ لمخطط يسمّى المنهاج.
تعاطيت لسنين مع الإدارات التربوية في العديد من المدارس، لاحظت أن أحد أهم الأسباب المؤثرة في اتخاذ القرارات وتخطيط التعلّم بالحقيقة هي المناهج وتصميمها. تنهمك الإدارة التعليميّة بالمناهج الوطنيّة والمنقّحة والأجنبيّة، الكفايات، الأهداف التعلّميّة، التقويم، العلامات... وعلى جبهة انهماك المعلمين لا زالت اللائحة تتضمّن: إيصال المحتوى، إدارة الصف، إيجاد موارد التعليم، التصحيح، التفريق (Differentiation)، الدعم، الوسائل والأساليب، التحفيز، والأهم، على قمة كل ذلك، ما يعرف بـ «الهوة الرقمية» (Digital Divide). اما معظم التحديث فينسب لاستخدامات الالواح الذكية والكتب الرقمية واللوحات الرقمية والكمبيوتر المحمول واستعمال بعض انظمة الإدارة التعليمية (Learning Management Systems) مثل Moodle وBlackboard. قليلون من يرون ان المأساة ستحصل حين يتحول الأمر إلى روتين مملّ مثله مثل مصادر التعلّم والتعليم الكلاسيكيّة. وأخيرا في هذا الجدل، لا تزال تقییمات الأداء التي یتم إجراؤها في حالها التقلیدي، أي مبنيّة على السلوك وسلّم «بلوم» (Bloom’s Taxonomy) للأهداف التعليميّة. أمّا الأسوأ فهو في المرحلة الثانویة حيث لا تزال الامتحانات الرسميّة والدولیة تحاصر الإبداع.
الحاضر هو مستقبل الماضي وهو ماضي المستقبل. ولا بد من تعديل في أعلى الهرم البيداغوجي لمدرسة المستقبل قبل التجهيز وقبل الإستثمارات الكبرى في جعل الحقيبة المدرسية أخفّ. نحتاج إلى سُلَّم معرفي جديد أو مُطَوَّر وإلى جعل المجال العاطفي أساسا لتحقيق أهداف عالمية إنسانية تستغل كل الذكاءات وتسمح بتصميم مناهج تعليميّة مطواعة تقترب لتلبية الإحتياجات الفكرية للمتعلّمين مما يمكنهم من تنمية مهاراتهم للحاضر والمستقبل. لم يتغير شيء واحد في جوهره: «إعادة النظر في هيكل الكفايات وتصميم المناهج الدراسية». بمجاز القول، نريد منهاجاً يعود من المستقبل لتصميم الحاضر.
* متخصص في تكنولوجيا التعليم، مستشار تربوي لدى شركة «ماكغرو هيل ايديوكايشن»