ينطلق الزميل خليل صويلح في كتابه ذي العنوان/ الفخ «ضد المكتبة» (دار نينوى) إلى ما يسميه «خلاء الكتب»، مفتوناً بدور الطريدة هذه المرة لا الصياد، باحثاً عما لم تروِه شهرزادات الحكاية، عبر تجوال طليق يطيح هندسة رفوف المكتبة رأساً على عقب. هكذا يدعو صاحب «ورَّاق الحب» إلى تعزيز فكرة «ضد المكتبة» كنوع من تهجين الفوضى عبر القراءة النوعية، متسائلاً: هل كل ما اقتنيناه من كتب ينبغي الحفاظ عليه، لا سيما في ظل الثورة التقنية التي أتاحت امتلاك كمبيوترات محمولة على هيئة مكتبة متنقلة تحتشد بالأفكار؟
يقول صويلح: «فكرة اللا مكتبة إذاً تعني بالمقام الأول، إلغاء الشكل الفلكلوري للمكتبة، كمظهر استعلائي، لا يختلف كصورة رمزية عن فاترينة الكريستال، وتالياً، ضرورة إطاحة عناوين تسلَّلت عنوةً إلى الواجهة بقوة دفع إيديولوجية طوراً، وسطوة أسماء مرموقة تارةً، أكثر منها حاجة روحية ومعرفية». وهو في هذا يتماهى مع ما قاله خورخي لويس بورخيس الذي كان يتخيل دوماً الجنة على شكل مكتبة: «أظن أنه من دون تنظيف هذه المكتبة من الأعشاب الضارة، ستكون نوعاً من الجحيم الدنيوي».

من هنا، يؤكد كاتب «قانون حراسة الشهوة» احتياجنا فقط إلى الكتب التي تقوم بتغيير مصائرنا وفقاً لما يقوله جيمس بالدوين، وعدم قراءة إلا المؤلفات التي تعضُّنا وتوخزنا، إذ يتشارك مع كافكا نظرته بأن على الكتاب أن يكون كالفأس التي تهشِّم البحر المُتجمِّد فينا.
في السياق ذاته، يُقارب مؤلِّف «جنة البرابرة» ضرورة تلخيص المكتبة بما يوازيه من تكثيف المتنبي للشعر الذي جعل محمود درويش يُجاهر: «كل ما أردت أن أقوله قاله هو في نصف بيت: على قلقٍ كأن الريح تحتي».
ورغم هول كلمة «مذبحة»، إلا أن صويلح يعتقد أن المكتبة تحتاجها بين فترة وأخرى «كنوع من الاصطفاء الطبيعي والضروري للكتب التي تتكئ على عكاز الأكاذيب، وفقر الدم وتصلُّب الشرايين، وضياع الموهبة».

الحاجة هي للكتب التي تغيّر مصائرنا وفق جيمس بالدوين

ولأنّه يؤمن بأن «ميراث الكاتب يتمثل في سلسلة قراءات في المقام الأول، باستعادة لذة طحين الآخرين قبل عجنه بأصابع أخرى، ووشم مختلف، في عملية لا نهائية وكأن رفوف المكتبة صخرة سيزيف موازية»، وفي الوقت ذاته يتفق مع مقولة ألبير كامو «على المرء أن يتصور سيزيف سعيداً»، فإنه ضمَّن كتابه العديد من قراءاته النقدية ورؤاه في الرواية والسينما والشعر والفلسفة والدين والحروب، مؤكداً أن مناداته المُضادة للمكتبة هي دعوة إلى القراءة، لكن من موقع مُغاير وغير مألوف. فهو يعتبر أن «كتباً لا تزني باللغة، لا تتوغل في الأحراش الكثيفة المعتمة، لا تحدث طوفاناً، لا يُعوَّل عليها».
من هنا نجد احتفاءه بأصحاب الرؤى الفريدة والخارجة عن المألوف من مثل امبرتو إيكو الذي لطالما خلخل اليقينيات بسرديات مضادة، وبرنهارد شلينك الذي أثبت أن صفحة الكتاب جسد مفتوح على اللذة أيضاً، وميلان كونديرا المُنادي بأن يكتب الروائيون تاريخاً مُضاداً لا يصطدم بحائط النسيان، مروراً بخورخي بورخيس كنموذج آخر لمتاهة الكتابة، والروائي الصربي زوران جيفكوفيتش المهووس بالمكتبات، والمُمانع الأرجنتيني الفذ أرنستو ساباتو، وإرفين د. يالوم الذي أدخل الفلاسفة قفص التخييل الروائي، وأيضاً الفرنسي بيار بيارد اللاهي عند تخوم الكتابة لزعزعة قدسيتها، وابن عربي ترجمان الأشواق، ودوغلاس ج ديفيس مؤرِّخ الموت، وليس انتهاءً بالموسوعي جورج طرابيشي وإشراقاته المتفردة التي تربو على مئتي مؤلَّف، وغيرهم الكثير. يختتم صاحب «اختبار النَّدم» كتابه بالقول: «أن تكون ضد المكتبة، فأنت تحتاج إلى مكتبة أخرى، بخطط ومتاهات لا نهائية!».