في المنهج، لا تضيف دراسة طارق محمد شحرور «عن الروح والنفس والمعرفة في التنزيل الحكيم: قراءة معاصرة» (دار الساقي) مسائل جوهريّة إلى نظريةِ أبيه محمد شحرور (مواليد دمشق ـ ١٩٣٨) في قراءة القرآن. على أنّ الإضافة في الدراسة الجديدة، موضوع المقال، تتأتى من تطبيقات على تلك النظرية. تطبيقات تؤدي إلى خلاصات تتّصل بمحاولة تصويب بعض المغالطات المعرفية الحداثيّة عن النفس الإنسانية في شقها المعرفيّ. والمعيار هو قراءة معاصرة للقرآن.
تتمحور المنهجية، أساساً، كما صار شائعاً، على مسألة نفي الترادف اللغويّ في مفردات التنزيل الحكيم. ثيمة غفل عنها معظم المفسرين التراثيّين. نفيُ الترادف هو مدخل جوهريّ لوضع الآيات في نصابها المفاهيميّ لناحية بناء تصوّر شامل ومعقول عن الإنسان ومداركه المعرفية. تصوّر يلائم الحقيقة القرآنية الشاملة ويصحّح بعض الشوائب في ضوء الحقبة العلمية المعاصرة.
ربطاً باختصاص المؤلف الأكاديميّ في الطب النفسي، تحاول هذه التطبيقات فكّ التباساتٍ في فهم النفس الإنسانية وطرائق إدراكها المعرفيّ بالإحالة إلى التصوّر القرآنيّ. تصور يقيمُ الإنسانَ كنقطة الاقتران الأهم (قرآن) بين الطبيعة والوحي المنزّل.

الطبيعة بما هي ميكانيزمات خارجية يدركها الإنسان حسياً بالسمع والإبصار، ومن ثمّ يقوم بترجمتها أو فكّ تشفيراتها عبر الفؤاد (السمع والأبصار والأفئدة) إلى تجريداتٍ متواضَع عليها. التجريدات هي من نتاج نفخة الروح التي انماز بها العاقل عن غير العاقل، ذلك من جهة. والوحي المنزّل أو التنزيل الحكيم، من جهة أخرى، بما هو حقيقة كليّة تلائم أحوال الإنسان كافة وتطابق العلم الإلهيّ بالأشياء والمسائل في ذاتها.
في ضوء هذه القراءة، يصير بإمكان السردية القرآنية أو التنزيلية استيعاب معظم ما تظهره النظريات الحديثة المتعلقة بالمعرفة الإنسانية (نظرية المعرفة) أو بالميول العميقة للكائن وتقسيماتها التي تؤسس لدوافع الإنسان. فالنص مكتمل في علم الله الكامل وليس على البشر سوى إعادة قراءته أو تفكيكه لرفع أي تناقض ظاهري مفترض قد تنتجه الحقبة المعاصرة. نتحدث إذن عن حركية للمعنى. حركيّة هي في ذاتها مصدر الإعجاز.
تعيد هذه القراءة تفسير القرآن بما يشبه إزاحة معظم التفسيرات التراثية، لأنها قراءة تستوعب كلّ مادة العلم في سياق مرتب ومقلّم جديد. فمثالاً لا حصراً، لا يعني لفظ «السّوءة» الوارد ذكره في آيات خروج وهبوط آدم وحواء من الجنة «العورة» أو الأعضاء التناسلية البشرية بحسب التراثيين. السوءة، هنا، تعني الموت. الموت أو إدراك حتمية الموت هو السوءة التي داراها الله عن آدم وحواء. وإذ أكلا من ثمر الشجرة بإغواء من الشيطان بفكرة الخلود، فإن حتمية الموت قد تكشفت لهما. فالهبوط هو استقلال نسبيّ عن رعاية الله الكاملة، أمّا الخروج من الجنة فهو التكليف. في سياق كهذا، يمكن فهم مصطلح كاللباس «يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم (...)» بأنه نكران الموت الذي يحصل، جدلاً بين الإنسان ونفسه. وهو لازم في تشكل قسم اللاوعي عند الإنسان في مرحلة التكليف.

تصويب مغالطات معرفية عن النفس الإنسانية

بطبيعة الحال، يمكن ربط هكذا قراءة بأحوال ومراتب النفس وتحقيباتها من مرحلة بدائية ليس فيها جدل ــ بحسب شحرور ــ وصولاً إلى حقبة التعامل بالجدل والتكليف في حقبة النص المكتمل «وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً». هنا، يصير من الممكن إعادة ترتيب السياقات الخَلْقية للإنسان في إطار يزيل أي تناقض مفترض بين كشوفات علمية حديثة وقراءات تراثية معينة. فالكائن البشري، قد وجد في مرحلة أولى وجوداً فيزيائياً على الأرض، ثم حدثت نفخة الروح، وهي بثّ القدرة فيه على التجريد عبر تعلم الأسماء، ومن ثم احتاج تأهيلاً خاصاً من الله في الجنة ثم مرحلة الاعتماد على النفس.
نظريّاً، تكاد نظريةُ محمد شحرور تكونُ ناجزة. في المقابل، ومن وجهة تطبيقيّة، يبقى النصّ القرآنيّ باباً مفتوحاً للفهم ولإمكان تفكيك تلك الترادفات اللغوية في سبيل تشكيل أرضية مفهومية تستوعب ما يمكن أن يجدّ على صعيد المعرفة (قراءة طارق محمد شحرور). على أن قراءة مماثلة تظل واقعة في معضلة الرؤية إلى النص على نحو يطمس، بقدر، فكرة أساسية في كونه، أصلاً، نصاً لغوياً جمالياً ذا شحنات تأويلية عالية. نصّ لا يركن لتفسيرات وحساسيات ناجزة في نفس المريد. وهي قراءة قد تضمر خطاباً سكونياً ميكانيكياً لناحية الاطمئنان الكامل لكونه نصاً ذا طبقة واحدة قد ألمّ بالحقائق العلمية في كل عصر، ويكفي فك شيفرة اللغة للكشف عنها. إنها معضلة الغفلة عن كون القرآن نصّاً مركباً من مستويات تأويليّة شعوريّة متعددة ومتداخلة لا يمكن حصرها أفقياً عبر فك لعبة الترادف اللغوي، فقط في سبيل ردم الفجوة الحضاريّة مع حداثة أو مابعد حداثة مفترضَة.