دشّن النظام البحريني، يوم الاثنين الماضي، فصلاً جديداً من فصول ترهيب المعارضة ومحاولات إخضاعها. فصلٌ يبدو أنه سيتجاوز، في قتامته، كل ما تعرّض له قياديو المعارضة ونشطاؤها منذ ما بعد العام الأول من «ثورة اللؤلؤة» (2011)؛ لكونه يطلق يد القضاء العسكري في محاكمة المدنيين والحكم عليهم.
هكذا، أصدرت المحكمة العسكرية الكبرى أولى أحكامها بالإعدام بحق 6 مدنيين، كانوا قد اتهموا باستهداف منشآت عسكرية تابعة لقوة دفاع البحرين (الجيش). المفارقة أن عناصر الجيش المتهمين بارتكاب جرائم قتل وتعذيب والتعدي على أماكن عبادة لا تطاولهم يد القضاء، فيما يُحال المدنيون على محاكم عسكرية بناءً على اعترافات تؤكد المنظمات الحقوقية أنها منتزعة تحت التعذيب بأساليب وحشية باتت علامة فارقة لسلطات المنامة. يقول ملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة، إنه يريد «استعادة هيبة الأجهزة العسكرية» التي لم تقصّر في «فرض هيبتها الدموية» طوال ست سنوات من عمر الحراك الشعبي. لكن ما لا يتنبه إليه آل خليفة، على ما يبدو، أن ما ستستجلبه تلك العناوين «التمويهية» لن يكون إلا مفاقمة الأزمة السياسية والاقتصادية التي تعيشها البحرين، والتي رهنت حكام المنامة، بالمطلق، لآل سعود وآل زايد، بوصف الأولين «مجرد مختبر تجارب» و«أداة طيعة للتنفيذ»

السابع عشر من شباط/ فبراير 2011. تمام الساعة الثالثة فجراً. القوات الأمنية البحرينية ترتكب مجزرة بحق المعتصمين في دوار اللؤلؤة، مركز الاحتجاجات الشعبية في قلب العاصمة المنامة، راح ضحيتها أربعة شهداء ومئات الجرحى والمصابين. أطلق البحرينيون على ذلك اليوم الأسود «فجر الخميس الدامي»، الذي أعقبه إحكام عناصر قوة دفاع البحرين (الجيش) قبضتهم على دوار اللؤلؤة، وحؤولهم دون وصول المحتجين إلى المنطقة.
تمسّك المتظاهرون بحقهم في التجمع السلمي مجدداً في الدوار يوم الثامن عشر من فبراير، لكن عناصر الجيش حاولوا ردع الزاحفين نحو الميدان بإطلاق الرصاص الحي عليهم. وعلى الرغم من ذلك، واصل المحتجون زحفهم من دون مبالاة بزخات الرصاص التي أصابت أول شهيد، الشاب عبد الرضا بو حميد، ليسقط غارقاً بدمائه.
بعد انسحاب الجيش من دوار اللؤلؤة في أعقاب تلك الجريمة، عاد المتظاهرون إلى الميدان بشعار جديد يهتفون به في اعتصامهم ومسيراتهم: «يا للعجب... يا للعجب... الجيش يقتل الشعب... يا للعار... يا للعار... الجيش يُطلق النار»، استنكاراً لإقدام عناصر الجيش على قتل المواطنين الذين أقسم على الحفاظ على حياتهم وحمايتهم. ويبدو أن هذا الشعار أغضب رأس الجهاز العسكري، ملك البحرين؛ لكونه يشبّه ممارسات الجيش بجرائم «عصابات الشوارع».

تحوّل «مبنى المشرحة» إلى مسرح لعمليات تعذيب نفسي وجسدي



توالت جرائم قتل المواطنين على أيدي عناصر الجيش بعد قمع أكبر احتجاج سلمي في البلاد منتصف آذار/ مارس 2011. وقد وثق «مركز البحرين لحقوق الإنسان» الانتهاكات التي نفذها الجيش البحريني، المدعوم بقوات «درع الجزيرة» السعودية، إضافة إلى جرائم قتل بحق ثمانية مواطنين ووافدين من جنسيات آسيوية، بطرق مختلفة.
لم تقف الأمور عند هذا الحد. فقد لجأ النظام الحاكم إلى إعلان الأحكام العرفية في البلاد، مطلِقاً حملة انتقام من الحراك الشعبي، وذلك باعتقال قياداته ومئات المواطنين الذين شاركوا فيه، ومحاكمتهم في المحاكم العسكرية، وممارسة شتى أصناف التعذيب بحقهم على أيدي عناصر الجيش، وفق ما تمليه كتب «الإرشاد الديني» في المؤسسة العسكرية، والموسومة بالطابع التكفيري المتطرف. ترافق ذلك مع حملة هدم لـ38 مسجداً نفذها عناصر الجيش البحريني بالاشتراك مع القوات السعودية، وفرض سيطرة عسكرية كاملة على مجمّع السلمانية الطبي التابع لوزارة الصحة، وتحويل أغلب مرافقه إلى مكاتب تحقيق مع الموظفين، فيما تحول «مبنى المشرحة» إلى مسرح لعمليات تعذيب نفسي وجسدي، أبرزها التهديد بالقتل والقتل الوهمي. كل ذلك، وغيره من الممارسات، بُني على المرسوم الملكي رقم 18 لسنة 2011، قبل إلغاء الأحكام العسكرية، وإحالة الدعاوى على المحاكم المدنية، وفق توصية تقرير «اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق» في البند 119.

إلى الخلف دُر: حكم العسكر!

جاء في البند «ب» من المادة 105 من دستور البحرين لسنة 2002 ما يأتي: «يقتصر اختصاص المحاكم العسكرية على الجرائم العسكرية التي تقع من أفراد قوة الدفاع والحرس الوطني والأمن العام، ولا يمتد إلى غيرهم إلا عند إعلان الأحكام العرفية، وذلك في الحدود التي يقررها القانون». ثم استُبدل بهذه المادة في 30 آذار/ مارس 2017 هذا النص: «ينظّم القانون القضاء العسكري، ويبيّن اختصاصاته في كل من قوة دفاع البحرين والحرس الوطني والأمن العام». وخلال فترة وجيزة طرأت تعديلات قانونية إضافية على ذلك النص، كان آخرها بتاريخ 18 نيسان/ أبريل 2017، حيث استُبدل به ما يأتي: «يختص القضاء العسكري بنظر الجرائم الآتية، عند ارتكابها عمداً من شخص غير خاضع لأحكام هذا القانون، بصفته فاعلاً أو شريكاً داخل المملكة أو خارجها». وعُني بتلك الجرائم، خصوصاً، ما يُرتكب بحق منتسبي قوة دفاع البحرين أو الحرس الوطني أو حرس المنشآت الحيوية. وبذلك، أجاز التعديل الأخير للقضاء العسكري محاكمة المدنيين بنحو دائم، وأصبح مدخلاً لإحالة القضايا السياسية عليه، بمصادقة رسمية من ملك البحرين.
مثّلت التعديلات الدستورية المتسارعة، على ما تبين لاحقاً، محاولة للتمهيد لإجراءات أشد قسوة ستطاول الحراك الشعبي. وبالفعل هذا ما حصل، حيث تسارع عقد المحاكمات السرية لمدنيين كانوا قد تعرضوا للاختفاء القسري منذ العام الماضي، إضافة إلى جلسات تعذيب وحشية أفضت إلى الاعترافات المطلوبة من قبل السلطة، ليبلغ الأمر ذروته يوم الاثنين الماضي، بإصدار المحكمة العسكرية الكبرى أحكاماً بالإعدام بحق 6 مدنيين، من بينهم الناشط الحقوقي، محمد المتغوي، والسيد علوي حسين، المرافق الشخصي لأعلى مرجعية دينية في البلاد، آية الله عيسى قاسم.

الموت أو الاعتراف

في تقرير مفصّل بعنوان «الموت أو الاعتراف»، صدر قبل أيام، كشفت أربع منظمات حقوقية بحرينية ما تعرض له قرابة تسعة مواطنين، من بينهم المتغوي وعلوي، على أيدي عناصر الجيش البحريني من انتهاكات. وقد أوصى التقرير المذكور بإلغاء التعديل الدستوري الأخير، وإعادة المادة 105 من الدستور إلى ما كانت عليه، لضمان عدم محاكمة المدنيين في محاكم عسكرية، إضافة إلى إلغاء القانون رقم 12 لسنة 2017، المُعدِّل لقانون القضاء العسكري، والذي سمح بمحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، وفتح تحقيق مستقل في شكاوى الانتهاكات. كذلك طالب التقرير الأمين العام للأمم المتحدة، والمفوضية السامية، والدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان، بحثّ حكومة البحرين على الأخذ بالمبادئ الأساسية بشأن استقلال القضاء وتطبيقها، حاضّاً المقرر الخاص المعني باستقلال القضاة والمحامين على طلب زيارة البحرين، والضغط على سلطاتها لقبول طلب الزيارة.

الانتقام «لهيبة العسكر»

لم يجد ملك البحرين تبريراً لتلك «التعديلات القاتلة» إلا القول إنها للحفاظ على «هيبة الأجهزة العسكرية». ذريعةٌ تحاول من خلالها السلطات تمويه كون التعديلات أداةً للانتقام من الحراك، عبر تمكين الجيش من تنفيذ جرائم قتل بحق الشعب ضمن «أطر قانونية ذات طابع عسكري»، ليكون الملك، بذلك، المسؤول الأول عن تنفيذ تلك الجرائم بصفته القائد الأعلى لقوة دفاع البحرين، وعن أحكام تفتقر إلى مقومات العدالة بحسب القانون الدولي وتأكيد منظمة العفو الدولية، بتواطؤ واضح من قبل شركاء النظام البحريني الغربيين، الذين تتقدم مصالحهم على أي اعتبارات أخرى.
وفي هذا الإطار، طالبت جمعية «الوفاق» المعارضة، في تعليقها على أحكام الإعدام الصادرة أخيراً، المجتمع الدولي، بـ«التخلص من الضغوط البترودولارية أمام الجرائم والتجاوزات المتعلقة بانعدام العدالة في البحرين، مشددة على أن «السلطة في البحرين غير مؤهلة ولا قادرة على إدارة الشؤون العامة وفق هذه المنهجية الانتقامية المتهورة». ووصفت الجمعية الأحكام الصادرة عن المحكمة العسكرية الكبرى بـ«الباطلة»؛ لكونها «استندت على إجراءات غير إنسانية، و(اعترافات) انتُزعت تحت التعذيب الوحشي الشديد... وعبر إجراءات الاختفاء القسري لمدد تزيد على عام».
هكذا إذاً، لا يزال ملك البحرين، بعد مرور ست سنوات على انطلاق الحراك الشعبي، مصرّاً على إطلاق أيدي جنوده في قتل المواطنين تماماً كما العصابات المسلحة، وعلى نصب المشانق للمطالبين بالديمقراطية وحقوق الإنسان أمام محاكمه العسكرية، ليكون القتل، بذلك، جهاراً نهاراً... بأمر الملك.
* إعلامي بحريني