إذا أردنا في بادئ الأمر أن نُحصي ما زرعناه من أسباب تهديم اللّغة العربيّة، لوجدنا أسباباً تقطع من أرضنا أشجار الفصاحة والبلاغة، منها أنّنا خلعنا أردية الحبّ للّغة الأمّ، كما نزعنا جلباب الفخر لأنّنا فقدنا المُنجزات، ولأنّنا أردنا أن نخبّئ شخصيّتنا بقبّعة أجنبيّة، ولأنّنا فقدنا الانتماء، وأضعنا التّجذّر، بتنا نعاني انفصاماً بين عملاق الماضي وقزم الحاضر. وإذا أردنا أن نضع حلولاً، وإن كانت نظريّة، فلا مناصَ من العودة إلى عقلنا العربيّ بتفكير عربيّ، ومنجز عربيّ، وتسمية عربيّة، ومن دون أيّ عقد.

ففي يوم اللّغة العربيّة العالميّ نطرح بعض الأسئلة:
ــــ هل يكفي أن يكون لهذه اللّغة الماضي الثّقافيّ العريق الّذي كان لها لتكون حاضرة في الزّمن الرّاهن؟
ــــ هل يكفي أن تكون اللّغة العربيّة واحدة من اللّغات الرّسميّة السّتّ في الأمم المتّحدة لتكون لغة فاعلة، وإحدى اللّغات الحيّة والمؤثّرة في العالم المعاصر؟
ــــ ألا يدفعها النّظر إليها بصفتها لغة مقدّسة نحو الجمود، ويجعل التّعاطي معها مسألة صعبة ومعقّدة؟
ــــ في الوقت الرّاهن، تحضر اللّغة العربيّة على الإنترنت بقوّة إلى جانب لغات أخرى، لكن بماذا يتميّز حضورها، وما الإضافات التي يشكّلها هذا الحضور؟

ضرورة امتلاك معلّم
العربيّة معرفة خصائص العربيّة وخصائص المتعلّمين

التّطوّر يفرض تغييرًا في النّظر إلى تعليم اللّغة العربيّة وتعلّمها. لذلك من واجبنا، نحن المتخصّصين في اللّغة وتعليمها، أن نعمل على تطبيق ما تعلّمناه من أجل إطلاق العربيّة، ووقف مسار التّراجع الّذي تعانيه في مدارسنا، وبين متعلّمينا.
فاللّغة ليست مجرد وسيلة تعبير تنقل الآراء والأفكار فقط، وإنما هي أيضًا طريقة في التّفكير.
هناك عمل كبير ينبغي القيام به، ويبدأ بالاعتماد على مناهج تربويّة حديثة تؤمن بالفكر العقلانيّ والحسّ النّقديّ، وبتأسيس مجمع لغويّ جديد تحرّكه قوّة الإبداع، ولا يكون قبرًا للّغة والثّقافة العربيّتين، وبإنشاء أكاديميّات نموذجيّة للتّرجمة، كما هي الحال في أوروبا، تساعد على تكوين المترجم المُصطلحيّ والموسوعيّ القادر على تحسين الاستعمالات اللّغويّة؛ لتتمكّن من احتضان المعارف المُستحدثة. كذلك ينبغي التّركيز على تكوين المناحي التّربويّة عند المتخصّصين في اللّغة العربيّة بدءًا من الجامعة؛ وضرورة الغوص في خصائص المتعلَّم والمتعلَّمِ، عَنيتُ خصائص العربيّة، وخصائص المُتعلّمين؛ لأنّنا بأمسّ الحاجة إلى معلّمين متمكّنين تربويًّا ولغويًّا. يتقنون لغة تُصغي إلى التحوّلات الجارية في العالم، وتتفاعل معها؛ لتكون ابنة هذا العصر.
لذلك علينا العمل على تشكيل معلّم العربيّة، فهو مهندس عمليّة التّعلّم، والمحفّز لها. أكثر من ذلك، فإنّ للّغة ثلاثة أدوار في التّعليم هي: نقل المعرفة، ونقد المعرفة، وإنتاج المعرفة، فنقل المادّة التّعلميّة، أي حمل مضمون المادّة وتعليمها بالطّريقة الّتي يشاؤها المعلّم، إضافةً إلى الوظيفة التّواصليّة. وهذه لا يمكن أن تتمَّ إلاّ من خلال اللّغة الفصحى وليس العاميّة. لذلك أرى أنّه لا يحقّ للمعلّم استعمال العاميّة مع تلامذته، خصوصًا أنّ الدّراسات الجادّة تشير إلى أنّ المعلّم يستعمل الفصحى بنسبة ٤٥ بالمئة، والعاميّة بنسبة ٥٥ بالمئة، ما يعني أنّ نسبة العاميّة هي الغالبة بينما تقتصر الفصحى على قراءة النّصوص. وأحد عناصر المشكلة هو أنّ التّعليم الشّفهيّ أضعفُ نشاطٍ نمارسُهُ، بينما هو أهمُّ نشاطٍ إذا فعّلناه، فعندها يُجيد المتعلّم الفصحى والتّعبير بها، فلا نلحظ ضعفًا في مستوى أدائنا في العربيّة. وخلاصة القول هو أنّ مدارسنا باعتمادها الطّرائق العقيمة تساهم في إضعاف العربيّة وتهميشها، لأنّ تعليم اللّغة ممارسة وليس مدارسة فقط.
وينبغي أيضًا ألا نُهمل ما تؤدّي إليه الكتب المدرسيّة من تنفير للمتعلّمين، فعلينا استخدام الفصحى المبسّطة والنّصوص المرتبطة بواقع المتعلّم، والبعيدة عن التقعّر. كما ندعو إلى التّركيز على القواعد الوظيفيّة الّتي تعتمد على ما هو مستعمل، والابتعاد عن كلّ ما هو غير مستعمل. وأن نؤكّد على النّواحي الوظيفيّة للّغة، وعندها سيمارس المتعلّم ما تعلّمه، وتخفّ الوطأة عنه. عندما نعتمد هذا المبدأ نستطيع أن نجعل لغتنا العربيّة سهلة ومتداولة، وبذلك تزول الفجوة بين ما لدينا من قواعد وما نطبّقه.
وعلينا أن ننحو المنحى التّكامليّ والتّرابطي في تعليم لغتنا، وأن نمحو من ذهن المتعلّم أنّ ما يدرسه هو ميادين منفصلة عن الأخرى، وهذا سببه الأساتذة الّذين تعوّدوا تعليم تلامذتهم أنّ كلّ مادّة يدرسونها هي وحدة قائمة ومنفصلة عن سواها. فالمنحى التّكاملي في ربط فروع مادّة اللّغة العربيّة، سماعًا ومحادثة وقراءة وكتابة، وقواعد، وإملاءً، وإنشاءً، ومطالعة، وتعبيرًا، وتفكيرًا من أجل إجادة اللّغة وإتقانها.
إنّ تعليم العربيّة وحدة متكاملة تبدأ من الشّفهي لتصل إلى المكتوب. وإذا كان محتوى المناهج: الكتب المدرسيّة، وغيرها مترابطًا، ونفّذها المعلّم والمتعلّم، وأتقناها نستطيع الوصول إلى ما هو أكثر من الإجادة إلى الإبداع، فترابط مناهج العربيّة مع منظومة حياتنا بشكل عام: اجتماعيًّا وسياسيًّا وتجاريًّا يُفسح المجال لتُعبّر اللّغة عن شؤوننا وشجوننا بشكل أيسر.
يجب أن نُخرج تعليم العربيّة من القوقعة ونربط التعلّم بالحياة، وهذه مسؤوليّة المعلّم الّذي إذا غادر جموده تحرّك المتعلّمون، وأفادوا من لغتهم وطاقاتها الخلاّقة.
*خبير تربويّ