ليس غريباً أن يتفق اللبنانيون حولَ الموقف ممّا يُعَدّ للقدس، أقلّه بالشكل. غير أن الغريب أن أحد الأحزاب الذي يبني برنامج عمله وخطابه السياسيّين على تهميش القضية الفلسطينية، ويختار من «معاداة» الفلسطينيين شعاراً لحروبه، قرر أن يقف اثنان من صقوره على منبر مجلس النواب للتنديد بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب «اعتبار القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي».
فحزب القوات اللبنانية وجد في جلسة مجلس النواب الاستثنائية أمس فرصة لقطع الطريق على أي توصية تحمِل عنوان المقاومة، التي أكد رئيس مجلس النواب نبيه برّي أنها «الطريق الوحيد في مواجهة هذا الاحتلال الجديد». وحين دعا بري المجلس للانعقاد لبحث قرار ترامب، رسم سقفاً للجلسة، حين قال إن المقاومة المسلحة هي الطريق الأمثل للفلسطينيين.
«هو يوم حزين جداً، بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط ولأبنائها مسلمين ومسيحيين، لأن للقدس رمزية إنسانية ودينية وحضارية وثقافية، والقرار الأميركي يشكل إساءة الى كل تلك الأبعاد». «قرار ​الرئيس الأميركي​ ​دونالد ترامب​ يفتقر إلى أي بعد قانوني، وهو جاء ليُنهي ويدفن أي عملية سلام». الكلام هنا، ليس لنائب في كتلة «الوفاء للمقاومة»، بل هو تمهيد اختاره النائبان في كتلة «القوات» ستريدا جعجع وجورج عدوان في معرض تسجيل موقف حزبهما من التطورات الأخيرة. لكن هذا التمهيد، لم يمنحهما موقع الحريص على القدس ورمزيتها، إذ إن التوصيفات البكائية التي اعتمداها لم تلغِ حقيقة كونها مجرّد فقاعات تضامنية تخفي وراءها دعوة إلى اعتماد أسلوب الاستسلام الذي يدفع باتجاه تصفية هذه القضية.

على غير عادته،
لم يتحدّث الجميّل
باسم حزبه، بل ترك المهمة للهبر

وهذا الاستسلام تمثّل في ما دعت إليه جعجع، إذ رأت أن ما يحصل لا يحتاج لأكثر من «انتفاضة إنسانية، قادرة على إيقاف مفاعيل قرار الرئيس الأميركي»، متباكية على «ثقافة السلام، والمبادرة العربية للسلام وحلّ الدولتين»، وكأن أياً من هذه العناوين ساهم في استرجاع حقوق الفلسطينيين. الرسالة المستترة التي أرادت نائبة القوات إيصالها كانت الابتعاد عن منطق المقاومة بحجة الحفاظ على الاستقرار، وأن المطلوب هو «تجنب اللجوء الى العنف الذي يشكل غطاءً لتمرير هذا القرار الخطيئة». الدعوة إلى «تجنّب اللجوء إلى العنف» توحي أن الاستقرار يحقق نتائج مبهرة للقضية الفلسطينية، وأنه لم يخلق البيئة الآمنة التي أتاحت توسيع المستوطنات في الضفة، وقضم ما بقي من أراضٍ فلسطينية لم يسيطر عليها الصهاينة.
كان حزب الكتائب أكثر تصالحاً مع ذاته في هذه الجلسة. حزب آخر طالما تنكّر لنضال اللبنانيين ضد الاحتلال الإسرائيلي، ناهيك بالفلسطيني، اختار رئيسه الذي غالباً ما احتكر الكلام بالنيابة عن كتلته واختصره بشخصه، أن يولي مسؤولية «تسجيل موقف الحزب» إلى أكثر نواب كتلته بعداً عن الأضواء، النائب فادي الهبر. فالقضية الفلسطينية ليست «ربّيحة» ولا يمُكن «تقريشها» في صناديق الاقتراع. لذا هي ليست بحاجة إلى مرافعات ومطوّلات استعراضية. يكفي أن يخرج نائب كتائبي عادي من باب رفع العتب ليقول إن «مصلحة لبنان العليا هي بتأكيد حق الفلسطينيين بالعودة، والاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل فيه تقويض لعملية السلام».
توالت الكلمات لنواب من مختلف الكتل كلّها تدين وترفض الاعتداء الوقح، وتعتبره إهانة لمشاعر كل المسلمين والمسيحيين في العالم، مطالبين بمواجهته لأنه يشكل خطراً على القضية الفلسطينية. فيما أعلن الرئيس برّي البيان الختامي، وفيه أن مجلس النواب اللبناني يعتبر أن «القرار الأميركي يقود إلى الحروب ويشكل غطاءً للعدو الإسرائيلي ويعزز التوطين وتذويب الشعب الفلسطيني»، مشيراً إلى أن «المجلس يدين ويستنكر هذا القرار، ويؤكد دعم حق الشعب الفلسطيني في مقاومته ونضاله ضد العدو الإسرائيلي مع حقه في العودة». ودعا «لإطلاق سراح البرلمانيين الفلسطينيين، كما دعا الى توجيه كل الجهود العربية والإقليمية في سبيل نيل الفلسطينيين كل حقوقهم»، مشدداً على أن «بناء السلام في الشرق الأوسط ينطلق من حق الفلسطينيين بالعودة وتقرير المصير وقيام دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس». وختم «بضرورة إبلاغ هذه التوصية للإدارة الأميركية باسم الشعب اللبناني».