لم يكن اتهام المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، أريك سولهيم، بعض المجتمع المدني بتأييد داعش، يستحق كل هذه الضجة والدهشة في الجمعية العامة التي عقدت في نيروبي... ولا سيما أن هذا الاتهام جاء في إطار الدفاع عن القطاع الخاص ورجال الأعمال والشركات الكبرى التي طالما اتهمت بالتسبب بالتلوث على المستوى العالمي.
وقد تقصّد قول ما قاله، في إطار التأكيد أنه كما هناك شركات غير صالحة وشركات صالحة (بيئياً)، هناك مجتمع مدني صالح ومجتمع مدني غير صالح. وذلك كله كمبرر لقبول هبات من كبريات الشركات لبرامج الأمم المتحدة، بعد تراجع الدول بشكل ملحوظ عن التمويل في السنوات الأخيرة ، ولا سيما من دول الاتحاد الأوروبي (80% من تمويل الأمم المتحدة للبيئة من 10 دول أوروبية)، بسبب الاهتمام بتمويل قضايا اللجوء كما يقولون، وبعد توقع أن تخفض الولايات المتحدة الأميركية تمويلها مع الرئيس ترامب، الذي أعلن صراحة عدم اقتناعه بالكثير من الاتفاقيات الدولية والبرامج؛ بينها قضايا اللجوء واليونسكو وقضايا البيئة والمناخ.
قد يعتبر البعض أنها المرة الأولى التي يخرج فيها مدير تنفيذي عن الدبلوماسية في التعاطي مع الدول والقطاعات، لكن حقيقة الأمر أن العالم كله يتغير، وكذلك المعايير والقيم والأدبيات. ولا يزال العالم يدفع الثمن، كمفعول رجعي عن العولمة، التي عظمت دور القطاع الخاص على حساب الدول، وقد تركت منظمات دولية وأممية لقدرها، أي أن تدخل السوق بشكل أو بآخر. مع الإشارة هنا، الى أن هذا "السوق" واقتصاده، هو نفسه المشكو منه والمتهم الأول بتخريب البيئة العالمية والقضاء على الأنواع والموارد وعلى ديمومة الحياة! فكيف تتمول منظمات دولية من شركات (ولو بطريقة غير مباشرة)، ومهما كانت، كان يفترض في أقل تقدير أن تراقب عملها وأن تضع المعايير اللازمة لنشاطها وأن تسنّ التشريعات والاتفاقيات الدولية لضبط أثرها البيئي الحتمي أينما كان؟!
تفسير ما يحصل في العالم ليس بالأمر البسيط، لا بل يمكن استنتاج أشياء في غاية الحراجة والتعقيد من كل ذلك.
الاستنتاج الأول أن تراجع الدول وترك القيادة للقطاع الخاص، يعني تراجع مفهوم الدولة وفلسفات سياسية متكاملة تم التأسيس لها خلال قرون وبعد طول حروب وبعد الكثير من التبجح بحصول تقدم ونضج في العقل البشري، وباعتبار أن الدولة هي عقل المجتمع وهي المؤتمنة على حفظ سلامة الموارد وديمومتها وعلى حقوق الإنسان الحالي والآتي. وقد انتقلت هذه "الأمانة" الآن، بشكل أو بآخر وبالتدرج الى الشركات الكبرى! وإذ لا يمكن اعتبار الشركات، مهما كانت كبيرة وعابرة للحدود والجنسيات والقطاعات، قادرةً على أن تمثل عقل المجتمع، ما الذي يمكن أن تمثله فعلاً؟
بحسب التجارب التاريخية، لا يمكن تشبيه عمل الشركات إلا بأرجل المجتمع. وهذا ما يفسر كيف تم استسهال الدوس على الموارد وديمومتها وعلى الناس وحقوقهم، ولا سيما تلك الافتراضية وغير المنظورة منها. وربما يصحّ تشبيهها أيضاً بأفواه المجتمع التي لا تشبع، أو بيده الطويلة الممتدة الى أي مكان في البر والبحر، واليوم في الأماكن المتجمدة للاستثمار تحت طبقات الجليد التي ذوبتها بفعل زيادة حرارة الأرض من خلال تغيّر المناخ!
يمكن تشبيه عمل الشركات إذاً بكل شيء في الجسم، إلا بعقلها، بالرغم من كل التخطيط والنجاح المحقق في التوسع والسيطرة على كل شيء تقريباً، لأن أهم مهمة للعقل هي أن يعرف القيم والحدود ويتوقف عندها، وأن يعرف كيفية الربط بين المعطيات... الخ. وإذا كان أهم ما في القيم هو الخير، وأهم أهداف الخير هو في البقاء، فهذا بالضبط ما بات يهدده النهج غير العقلاني للشركات، عندما يتسبب بالقضاء على الأنواع؛ وبينها النوع الإنساني… وهو ما يفترض أن تدافع عنه منظمات أممية كبرى كالأمم المتحدة للبيئة.

* للمشاركة في صفحة «بيئة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]