مع اقتراب موعد إعلان «الانتصار العظيم» على «داعش»، يدخل العراق ــ تدريجياً ــ في مرحلة «نسيان» حقبةٍ دامت سنواتٍ ثلاث، من حربٍ ودم. يُقال إن «الذاكرة الجمعية للعراقيين قصيرة نسبياً». عبارةٌ تُضرب كـ«مثل شعبي» في الأروقة السياسية والصالونات الثقافية، وحتى في الأحاديث الشعبوية، كإجماعٍ على أن العراقيين «أصحابُ عزيمةٍ على المضي إلى الإمام، من دون النظر إلى الخلف».
الحديث هنا عن عودة القدس إلى هذه «الذاكرة» بعد غيابٍ قسري دام أكثر من 14 عاماً، منذ الغزو الأميركي لـ«بلاد الرافدين»، وانشغال العراقيين بمقاومة الاحتلال، ومن ثم «داعش»، الذي هدّد بسقوط بغداد، مع وصول مسلّحيه إلى حزامها صيف 2014.
قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يكن مستساغاً للحكومة الاتحادية برئاسة حيدر العبادي، وللمرجعية الدينية العليا (آية الله السيد علي السيستاني)، ولمعظم الأطراف والتيّارات السياسية (سُنّةً وشيعة)، باستثناء «بعض» القوى الكردية (لعلاقتها «المميّزة» بإسرائيل، وتقبّلهم لدورها في المنطقة).
ردود الفعل على القرار الأميركي «المتهوّر»، بوصف عددٍ من المرجعيات السياسية العراقية، يؤكّد «الحضور القوي للقضية الفلسطينية في الشارع العراقي»، إذ تصف مصادر متابعة «أداء» تلك القوى (الرسمية، والسياسية، وفصائل المقاومة) بـ«الممتاز، والقوي»، مشيدةً بـ«الخطوة الجريئة» لوزارة الخارجية باستدعائها للسفير الأميركي في بغداد، دوغلاس سيليمان، لتسليمه «مذكرة احتجاج على قرار ترامب»، في وقت أبدت فيه الحكومة رفضها للقرار، محذّرةً من «التداعيات الخطيرة للقرار»، بعد أن دعت إلى «التراجع عنه».

موقف المرجعية الدينية جاء في لحظةٍ تاريخية توجب طرحه




موقف المرجعية الدينية كان لافتاً أيضاً، إذ عكس «متابعة» النجف للتطوّرات الراهنة، حيث استنكر السيستاني قرار ترامب، بوصفه «إساءةً لمشاعر مئات الملايين من العرب والمسلمين»، مؤكّداً أنّه «لن يغيّر من حقيقة أن القدس أرضٌ محتلة، ويجب أن تعود إلى سيادة أصحابها الفلسطينيين مهما طال الزمن». فالمرجعية الدينية في النجف تُعرف بـ«تحفّظها» على الدخول في «النقاشات السياسية»، إلا أنها وفق عارفيها «تقدّم موقفها السياسي والواضح في اللحظة التاريخية التي توجب طرحه»، فيكون له صداه، وأثره في الشارعين العراقي والإسلامي.
بدورها، استنكرت معظم القوى السياسية خطوة ترامب، إلا أن تصريحات زعيم «التيّار الصدري» مقتدى الصدر، لاقت «الصدى» المرجوّ منها، وفق مصادر «التيّار». ودعا الصدر الحكومات العربية والإسلامية إلى «إغلاق السفارات الأميركية والسفارات الإسرائيلية»، مطالباً بـ«إغلاق السفارة الأميركية في العراق». كذلك دعا في مؤتمر صحافي «الفصائل العراقية لعقد اجتماعٍ طارئ في أي مكان يريدون»، قائلاً: «إذا كانت الفصائل جادّة بالهجوم على إسرائيل، فسأكون أول جندي، وليس أوّل قائد».
واعتبر الصدر سوريا ممرّاً للعبور باتجاه الحدود الفلسطينية، داعياً السعودية إلى «تأسيس تحالفٍ لإنقاذ القدس من الاحتلال بأسرع وقتٍ ممكن». ووفق معلومات «الأخبار»، فإن موقف الصدر لقي تأييداً إيرانيّاً وترحيباً، في وقتٍ وصفت فيه مصادر «التيّار» بأن «معدن الصدر ما زال مقاوماً، وأن الرجل ليس بمنسجمٍ مع الطروحات السعودية كما يروّج».
دعوة الصدر ستترجم غداً في اجتماعٍ يضم فصائل المقاومة للتباحث في «الردّ المناسب»، وسياقاته وأطره. وتشير معلومات «الأخبار» إلى أن الموقف «وإن كان إعلاميّاً، فهو لازمٌ علينا، وضروريٌّ إظهاره لانتمائنا إلى المحور المناهض لأميركا»، على أن يكون «الردّ» في مسارين، الأوّل بالدعوة إلى تظاهراتٍ مركزية كبيرة، في مختلف المدن، للإدانة والاستنكار، فيما الثاني عبر حثّ المواطنين على مقاطعة الأميركيين «العاملين» (مدنيين أو عسكريين) في البلاد، وتجنّب الاحتكاك معهم، في خطوةٍ تعيد إلى الذاكرة كيف تعامل العراقيون مع الاحتلال الأميركي طوال فترة مكوثهم (2003 – 2011)، بناءً على توجيهات المرجعية.
ويقود الحديث عن «مرحلة الاحتلال» ومقاومته إلى السؤال عن إمكان استهداف الأميركيين مجدّداً، بعد إعلان «النصر». مصادر «المقاومة العراقية» تؤكّد في حديثها إلى «الأخبار» وجود مسارين أيضاً؛ الأوّل بإبقاء المواجهة «سلمية» مع تصعيد المقاطعة الشعبية تجنّباً لإدخال البلاد في معركةٍ جديدة، خاصّةً أن العراق على أعتاب مرحلة «إعادة الإعمار». أما المسار الثاني (أبرز مؤيديه «كتائب حزب الله ــ العراق») فيشي بأن المواجهة العسكرية آتيةٌ لا محالة (راجع «الأخبار»، العدد 3313)، وأن العمليات ضد القوات الأميركية في طور الإعداد لها، بـ«الرغم من التصريحات الرسمية من جهة، وبقاء القوات في قواعدها من جهةٍ أخرى»، بتعبيرها.
وأمام تعدّد الخيارات المتاحة أمام القوى العراقية في انتخاب «ردّها» على إعلان ترامب، فإن الخاسر الأكبر ــ حتى الآن ــ هو السعودية، وظهورها بموقفٍ مخزٍ، خاصّةً أنها تسعى للعودة إلى العراق من باب «العروبة والقضية العربية». ويتساءل سياسيٌّ عراقي ــ كاد يركب «السفينة» السعودية ــ في حديثه إلى «الأخبار»: «كيف يمكن أن نقنع جمهورنا بخيار التقارب من السعودية، وهي تخطّت كل الخطوط الحمر، من قتلنا إلى إضاعة القدس؟».