واضح أن الشعب الفلسطيني، رغم كل المخططات، منتفض مع وقف التنفيذ ضد الاحتلال الإسرائيلي، وبعبارة أخرى مع تنفيذ بالقدر المتاح حتى الآن. كما واضح أنه أيضاً، منتفض مع وقف التنفيذ، ضد ما يمكن وصفها بأداة الاحتلال في قمع تطلعاته وخياراته، وهي السلطة الفلسطينية. الانتفاض في الاتجاهين وارد، والبحث ليس في المعقولية، بل في موعد تحقق هذا السيناريو.
الانتفاضة على المحتل الإسرائيلي نتيجة لا تبعد عن كونها حتمية. فالمحتل يسلب ويمنع عن الفلسطيني أبسط حقوقه الطبيعية، فيما الانتفاضة على السلطة، أنها المقاول الثانوي للمحتل، الذي يمنع عن الفلسطينيين خياراتهم في مواجهة الاحتلال، ومحاولة الاكتفاء بقشور حل بات من المؤكد أن لا قدرة على الوصول إليه.
وكلا الجانبين، الإسرائيلي والسلطة، معنيان في قمع الفلسطينيين وكبح تطلعاتهم وخياراتهم المقاومة، بما يشمل خيارات المقاومة السلمية. وفي الواقع، هو سباق بين محاولة الكبح والبقاء على وأد التطلعات، وبين حتمية الانتفاض على وضع ميؤوس منه. إلى متى يمكن للمحتل ومعاونيه كبح الفلسطينيين، والى متى يمكن للفلسطينيين الانكباح عن الانتفاضة في وجه المحتل ومعاونيه؟ سؤالان سياميان، ثبت أن الاحتلال استطاع، إلى الآن، النجاح في مساعيه ومحاولاته.

يعدُّ التنسيق
الأمني جزءاً من آليات تطويع الشعب بأيدٍ فلسطينية


في الحرب الدائرة بين الارادتين، من المفيد الإشارة إلى أهم الطرق والأساليب، التي يعتمدها الاحتلال في وأد وكبح الفلسطينيين عن خياراتهم. طرق قد تكون كافية بذاتها للدلالة على الموقف الحالي وميزان القدرة وحرب الارادات بين الجانبين، وإشارات دالة كذلك، على اتجاه المواجهة، وإمكانات الانتفاضة اللاحقة، التي يسعى الاحتلال إلى الإبقاء عليها مكبوحة، إلى حين تحقق ما أمكنه من خطط توسعه وتضييقه على الفلسطينيين، ضمن خطة أوسع لإنهاء القضية الفلسطينية، بمعونة كما يتضح من الأنظمة العربية، بما بات يعرف بـ«صفقة القرن».
يعد التنسيق الأمني بين الاحتلال وأجهزة السلطة الفلسطينية جزءاً من آليات تطويق وتطويع الشعب الفلسطيني، بأيد فلسطينية. وينظر إليه إسرائيلياً على أنه إحدى أهم الوسائل وأكثرها نجاعة في مواجهة أي مطالب فلسطينية أو رد فعل على إجراءات احتلالية. وثبت لتل أبيب أن هذا «التنسيق» هو سلاح فاعل ومؤثر في مواجهة الفلسطينيين، ومنع أي هبة أو انتفاضة، ما كان يتصور أن الاحتلال قادر وحده على مواجهتها والحوؤل دونها، أو وأدها في مهدها.
في جانب آخر، يتضح أن إسرائيل تعمد إلى الامتناع عمّا من شأنه دفع الفلسطينيين إلى الانتفاضة، أو تسريع خياراتهم المقاومة في وجه الاحتلال. وهي إن أقدمت على ذلك، فإنها تعمد إلى مقاربة متدرجة وحذرة، تتلمس من خلالها ردة فعل الفلسطينيين عليها، وإمكان كبح مقاومتهم لها، عبر قواها الذاتية أو عبر وكيلها الفلسطيني والتنسيق الأمني بينهما.
في ذلك، تعد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وتحديداً جهاز الشاباك والاستخبارات العسكرية، الجهة التي تضبط إيقاع المقاربة الإسرائيلية، وتعمل على فرملة اندفاعة السياسيين، الذين تغلب عليهم المزايدات والتسرع في تحقيق النتائج. برز ذلك بشكل واضح في «شبه انتفاضة» البوابات الالكترونية على أبواب المسجد الاقصى التي كانت الأجهزة الأمنية قد رفضتها في البداية، لكن الرعونة السياسية دفعت إليها.
في ذلك أيضاً، تضغط الأجهزة الأمنية بأن يكون الفعل العقابي، الذي يلي العمليات الفلسطينية بين الحين والآخر، لا يتسبب بدوره بعمليات إضافية، أو انتفاضة محلية شعبية قد تؤدي إلى اتساع رقعتها لاحقاً.
هدف العدو إنتاج فلسطيني من نوع اخر، يكون نداً ومشروع ندية لمواجهة الوعي الفلسطيني في ضرورة التصدي للاحتلال ومواجهته. تريد السلطة من الفلسطيني أن يرى الاحتلال حقيقة، واليأس من مقاومته حقيقة وضرورة موازية له. وهذا المسعى تتشارك فيه السلطة الفلسطينية مع الاحتلال، ويحاول أن يوصل الجمهور الفلسطيني كي يرى سعيه إلى تحسين وضعه الاقتصادي، أو المحافظة عليه، هو منتهى آماله، بعيداً عن تطلعاته الوطنية في مواجهة الاحتلال.
نجحت السلطة الفلسطينية اليوم في أنها معنية بإنتاج سلطة تعمل من أجل بقائها وبقاء امتيازاتها، لا التطلع إلى مصلحة الشعب والقضية الفلسطينية. وهو ما نجحت فيها بشكل كبير جداً. حالياً، السلطة هي كيان قائم بذاته، يتمتع القائمون عليه بامتيازات لا يمكن المحافظة عليها إلا من خلال المحافظة على رضى المحتل، فيما إسرائيل تنظر إليه كرديف في تحقيق مصالحها في الأراضي المحتلة، تحت تهديد قطع العطاءات عنه، ما لم يحقق إرادتها، الأمر الذي حوّل السلطة إلى أداة وظيفية بأيدٍ إسرائيلية، لمواجهة أي تطلع أو مقاومة فلسطينية.
مع ذلك كله، لعل أهم المساعي التي يعتمدها المحتل في هذه المرحلة، إلى جانب حلفائه المحليين والإقليميين والدوليين، هو مسعى متشعب في اتجاهين اثنين: الأول يتمثل في احكام الطوق على الشعب الفلسطيني، لمنع امداده بأسباب القوة، وإشعاره بالضعف أمام الاحتلال. وفي الثاني، بث اليأس في وجدانه ووعيه بأن لا إمكان لتحقيق إلا ما جرى تحقيقه بالفعل على مستوى مسار «أوسلو»، وأن أقصى ما يمكن التوصل اليه هو «أوسلو» بحلة جديدة منقحة، بغض النظر عن أسمائه للمرحلة المقبلة، سواء بقي اتفاق أوسلو، أو أصبح اتفاق الرياض وتل أبيب.