يتسارع التطهير العرقي وعملية التهويد في القدس الشرقية. إسرائيل ماضية في سياسة تدمير مقومات وجود الفلسطينيين على أرضهم في عموم الضفة الغربية. وما يجري في القدس الشرقية على وجه الخصوص، يكشف بوضوح شديد ماهية سياسة العدو الهادفة إلى تغيير الواقع الديمغرافي في المدينة، لتأمين غلبة يهودية نوعية على أهلها الفلسطينيين، من خلال سلسلة إجراءات سياسية وميدانية وأمنية وقانونية.
منذ احتلال القدس الشرقية عام 1967 ومن ثم ضمّها، سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى تغيير ميزان القوى الديمغرافي بين الفلسطينيين والاسرائيليين لكي يصبح هؤلاء سبعين في المئة من قاطني المدينة. لكن واقع الحال كما أشارت صحيفة «هآرتس»، استناداً إلى معطيات نشرها معهد القدس لدراسة السياسات في أيار الماضي، هو أن الغالبية اليهودية لا تتعدى 59%.
ما تخشاه القيادات السياسية والأمنية الصهيونية هو أن يشكّل الفلسطينيون بعد عقد من الزمن أكثر من نصف سكان المدينة نتيجة ارتفاع نسبة الولادات لديهم، فيفشل مشروع تهويدها. وأطلق عدد من هذه القيادات، بينهم وزيرا النقل والتعليم إسرائيل كاتز ونفتالي بينيت، حملة «أنقذوا القدس اليهودية» للحفاظ على «الغالبية اليهودية في المدينة» حسب تعبيرهما.

سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى تغيير ميزان القوى الديمغرافي

وقد تقدم بينيت، خلال العام المنصرم، باقتراح يقضي بتوسيع حدود بلدية القدس عبر ضمّ مستوطنة معالي أدوميم ومستوطنات أخرى كبرى موجودة في جوارها في الضفة الغربية. وتشكّلت لجنة وزارية لإعداد مشروع قانون حول «القدس الكبرى» بدعم من بنيامين نتنياهو. يعني مشروع القانون هذا، في حال إقراره، أن مئة وخمسين ألف مستوطن إضافي سيدخلون في عداد سكان القدس، وسيكون لهم حق التصويت في الانتخابات البلدية.
من جهة أخرى، سمح جدار العزل والضم، الذي شُيّد قسم منه في قلب الأحياء العربية في القدس الشرقية، أو بينها وبين البلدات والقرى الفلسطينية المجاورة لها في الضفة الغربية، بتقطيع أوصال الأحياء والأراضي الفلسطينية، وشقّ الفلسطينيين إلى قسمين: قسم يعيش داخل المدينة، أي ضمن حدودها الجديدة كما رسمها الجدار، وقسم آخر خارجها.
تعدّ الحكومة الإسرائيلية مشروع قانون آخر يهدف إلى حرمان نحو مئة ألف فلسطيني، من الذين يعيشون خارج الحدود المستجدة للمدينة، من حق الإقامة فيها، والفصل بين الأحياء التي يقطنون فيها كعناتا، وكفرعقب، ومخيم شعفاط، وبلدية القدس، بعد أن كانت تابعة لها. وتستمر سياسة هدم البيوت أو الاستيلاء عليها داخل المدينة، وكذلك تتزايد الإغارات الليلية التي تنفذها القوى الأمنية والعسكرية الصهيونية على الأحياء العربية، كالعيسوية والطور بحجة ملاحقة واعتقال المقاومين. وتتفاقم أزمة السكن المفتعلة من قبل سلطات الاحتلال داخل المدينة لدفع السكان الباحثين عن سكن أرخص إلى الرحيل الى الأحياء والبلدات الموجودة خلف الجدار، كبلدة كفر عقب التي باتت شديدة الاكتظاظ سكانياً نتيجة كثافة النزوح إليها. وتعمل سلطات الاحتلال أيضاً على إزالة أو عزل القرى والبلدات الفلسطينية الواقعة بين المستوطنات والقدس، والتي تعتبرها عقبات تعترض عملية بناء «القدس الكبرى».
ما يجري في القدس نموذج مصغر عن السياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية، والتي سمّاها البعض، ومنهم إسرائيليون كعالم الاجتماع باروخ كيمرلنغ، مسار الإبادة السياسية (le politicide). بدأ هذا المسار عام 1948، عند قيام العصابات الصهيونية بتهجير القسم الأعظم من الفلسطينيين من أرضهم، واستمر منذ ذلك التاريخ من خلال القضم التدريجي للأرض وتدمير المنازل والاستيلاء على الموارد المائية والطبيعية وبناء المستوطنات والطرق الالتفافية ومنع التواصل بين المناطق الفلسطينية، وتصفية القيادات الوطنية والمقاومين وتدمير المؤسسات والاقتصاد، والعمل على حصر الفلسطينيين في جيوب مكتظة. والجيوب تشبه المعازل التي حشر فيها السكان الأصليون بعد أن تعرضت بلدانهم للغزوات البربرية الغربية. ذلك أن المشروع الصهيوني كأي مشروع استعمار استيطاني احتلالي، لا يمكن مقارنته إلا بالمشاريع الاستعمارية المشابهة في الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا على سبيل المثال.
خاض الشعب الفلسطيني تجربة كفاحية طويلة وضارية، شعبية ومسلحة، ضد الاستعمار الصهيوني، في ظروف إقليمية ودولية استثنائية الصعوبة، وقدّم عشرات الآلاف من خيرة أبنائه شهداء على درب التحرير، بمن فيهم القسم الأكبر من قياداته التاريخية كأبو عمار وأبو جهاد وأبو أياد وأبو علي مصطفى ووديع حداد وفتحي الشقاقي والشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، وآخرين كثر. وظنت دوائر صنع القرار في العواصم الغربية وفي تل أبيب، كما في جزء من العواصم العربية، أن حالة شبه الاستقرار التي سادت الضفة ما بين عام 2008 وأوائل تشرين الاول من عام 2015، تثبت أن نبض المقاومة قد خمد، وأن الفلسطينيين قد خضعوا للأمر الواقع.
لكن سلسلة العمليات التي تشهدها المناطق المحتلة منذ تشرين الأول عام 2015، والتي تتنوع بين عمليات دهس وطعن وإطلاق نار، وتأخذ شكلاً غير قابل للاحتواء، إضافة إلى المواجهات الشعبية مع قوات الاحتلال، وآخرها المواجهة حول البوابات الإلكترونية قرب المسجد الأقصى، ثم هناك الاحتضان الشعبي الكبير للشهداء وللمقاومين، من الجنازات الشعبية الكبيرة للشهداء، وتبنّي العائلات ما يقوم به الأبناء، وحملات دعم إعادة إعمار البيوت التي تهدمها قوات العدو... كل ذلك تحوّل إلى مؤشرات لا تخطئ من أن الظروف في فلسطين ثورية بامتياز، وأننا أمام إرهاصات انتفاضة ثالثة، في مواجهة الإبادة السياسية.