طيف عصام محفوظ (1939 ــ 2006) يخيم على الدورة الحالية من معرض الكتاب. رائد المسرح اللبناني الحديث على مستوى التأليف في النصف الثاني من القرن العشرين، يعود من بوابة «دار نلسن» التي تصدر له: «بانتظار غودو» (ترجمة) و«الكتابة في زمن الحرب»، «سيناريو المسرح العربي في مئة عام»، «باريس السبعينات: لقاء المشرق والمغرب»، و«زهرة المستحيية أو «العاشقة الانكليزية»» (ترجمة)، إلى جانب ندوة تخصص عنه في المعرض.
في العام الماضي، أحيت بيروت ذكرى هذا المثقف اليساري والراديكالي الذي قارع في أعماله السلطة والرجعية والنظام القمعي والاستبداد والخطاب السائد «المريح»، مواكباً مفترقات مصيرية وتحولات سياسية شهدها لبنان والمنطقة في حقبات مختلفة. لعلنا اليوم في زمن أحوج ما نكون اليه إلى هذا الرمز الذي جمع في أعماله بين مسرح العبث والمسرح السياسي والتوثيقي، قبل أن ينطفئ وحيداً رافضاً المساومة مع الوضع القائم.
في مرجعيون في جنوب لبنان، ولد عصام محفوظ عام ١٩٣٩. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس بلدته، ثم سافر إلى باريس حيث حصل على دبلوم الدراسات المعمقة من «معهد الدراسات العليا» في الأدب الفرنسي وعاد إلى الوطن ليستقر في بيروت منذ عام ١٩٥٩، ويعمل في الصحافة المحلية منذ حينها.

لغته المشهدية مبنية
على الموقف والعلاقة والحركة

في بدايه حياته الأدبية، كتب الشعر، فرافق تجربة مجلة «شعر» الرائدة، ونشر أول دواوينه عام ١٩٥٩ بعنوان «أشياء ميتة» يليها «أعشاب الصيف» (١٩٦١)، ثم «السيف وبرج العذراء» (١٩٦٣)، و«الموت الأول» (١٩٧٣). لكنه سيهجر الشعر نهائياً ليتبنى لغة تعبيرية جديدة هي المسرح. وبرغم كتابته الشعر سابقاً، إلا أنّه أول من طالب بالابتعاد عن اللغة الشعرية في المسرح وفصل النوع المسرحي عن النوع الأدبي. كانت مسرحياته تتعامل مع القضايا والمواقف الإنسانية والفكرية التي صدرت منها الحركة الحديثة.
كتب جميع مسرحياته بالمحكية اللبنانية التي تشبه لغة الحياة اليومية، فلغته المشهدية مبنية على الموقف والعلاقة والحركة. مسرحيته «الزنزلخت» (أنهى كتابتها عام 1964) ضمت البيان المسرحي الحديث الأول، إذ أعلن ولادة اتجاه جديد بعيداً عن التقليدية والكسل، بعيداً عن «اللا مسرح». ثم كرت سبحة الأعمال مع «القتل» و«الديكتاتور» و«كارت بلانش» و«لماذا»... بنى القمع بأشكالها السياسية والاجتماعية والدينية، والاستبداد، والفرد بعلاقته مع الجماعة، والنقمة على الأوضاع السياسية العربية والمحلية، حضرت في نصوصه بمختلف مراحلها أولها «الزنزلخت». كانت الأخيرة جزءاً من ثلاثية بطلها «سعدون» الذي يتعرض لمحاكمة من قبل الجنرال، ضمن مناخات عبثية وسريالية، فيما تطرقت «الديكتاتور» إلى الفرد والسلطة العادلة في ظل الانقلابات العكسرية التي شهدها العالم العربي في الستينيات. لكن زلزلال النكسة سيأخذه إلى مستوى آخر أكثر حدةً، إذ انتقل إلى المسرح المسيس الاكثر مباشرة مع «كارت بلانش» و«لماذا»، معلناً نقمته وخيبته من المشهد السياسي العربي واللبناني من خلال تحويل الخشبة إلى سوق بغاء. في موازاة ذلك، اشتغل محفوظ في الترجمة، مقدماً تصوّره اللغوي للمسرحيات التي نقلها. مثلاً، لم يكن أحد ينتظر أن يصل المخرج المسرحي المعروف شكيب خوري إلى إخراج «بانتظار غودو» بهذه البساطة وبعرضٍ لافت، غير أن ترجمة محفوظ لنص صموئيل بيكيت التي بلغت الجميع، أتاحت له ذلك.
عمل محفوظ استاذاً لمادة التأليف المسرحي في الجامعة اللبنانية. كما تولى تحرير صفحة أسبوعية في صحيفة «النهار» تظهر كل سبت، استمرت 27 عاماً وكان لها تأثير في الوسط الثقافي. بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، غادر إلى باريس لفترة. وبالرغم من أنّه نشر آخر نصوصه المسرحية «التعرّي» عام 2001، إلا أنه كان قد فقد الإيمان بدور المسرح التغييري في المجتمع. هكذا، دخل ميدان الدراسات الأدبية والكتابات النقدية في صيغة مشبعة بالتراث الحواري الآتي من تجربته المسرحية الناقدة. قدم مجموعة من الكتب الحوارية التي تحكي التراث الفكري العربي كما تستعيد رموز التنوير في الحضارة الاسلامية العربية منها «مسرح القرن العشرين» في جزءين عام ٢٠٠٢، و «حوار مع الملحدين في التراث» عام ٢٠٠٤ وغيرهما.
رفض أن يكون الكاتب خاضعاً للون أدبي واحد، وهذا ما جعله يتنقّل بين الشعر والمسرح والنقد والمقال الصحافي والكتابات التراثية والسياسية، فبلغ عدد كتبه المطبوعة نحو 45 كسر بها التابوهات على أشكالها. اليوم، تستعيد بيروت هذا المثقف الطليعي، والمتمرّد الأبدي على كل منظومات القمع والسيطرة والرجعية والتزمت والتخاذل، في محاكاة مذهلة لراهننا ووضعنا القائم.

ندوة «تحية إلى عصام محفوظ»: بمشاركة سليمان بختي، عبده وازن، شكيب خوري ـ 6/12/2017 ــ س:18:00