منذ إطلاقها عام 1939، تأسست معالم شخصيّة الرجل الوطواط (باتمان) لتقدم نموذج الرجل الأميركي الأرستقراطي الأبيض الذي يمتلك الألمعيّة والجمال والقوّة والمال والنفوذ معاً. لكن بدلاً من تحقيق مآرب شخصيّة، نراه كما رأسمالي فاضل يوظّف كل ما يمتلكه لأجل الصالح العام في مدينته – غوتام أو نيويورك – وأحياناً أيضاً في خدمة المجهود الحربي الأميركي وجمهوريّة الخير (على نسق مملكة الخير المعروفة)، ضد كل أعداء الولايات المتحدة من النازيين الألمان إلى أسامة بن لادن، وبقيّة نماذج الشر الأخرى التي ابتدعتها مخيّلة الثقافة الأميركية للاستهلاك العام، ودائماً خلافاً للوقائع الفعلية.
مع ذلك، فإن تلك الشخصيّة الذكوريّة المحض حملت معها دائماً بذور مصاعب ذاتيّة عاطفيّة وسايكولوجيّة عميقة. فالرجل الوطواط على العموم عدواني مفتقر للأصدقاء، متهم بالتباس علاقته بالنساء القويات اللواتي يحببنه، لكنهن يتمنّعن عن الارتباط به، إضافة إلى الأبعاد الجنسيّة المثليّة لعلاقته مع روبن المراهق، وتعاطفه الضمني مع الفاشيست اليمينيين.
شركة «وورنر بروس» التي تمتلك حقوق الشخصيّة في السينما، أرادت حل مشاكل باتمان الشخصيّة دفعةً واحدة من خلال فيلمها الأخير «رابطة العدالة» أو Justice League.

غادوت المدربة السابقة في قوات النخبة الإسرائيليّة شاركت في العدوان على لبنان
هنا يلعب الدور الممثل الأميركي بن أفليك، وقد استدعت معه الشركة شخصيات عدة من صندوق عجائبها لتقاتل إلى جوار البطل المتوحد في مواجهة الوحوش أعداء العولمة (المتأمركة) ستيبنوولف وجيشه من الباراديمونز (بالطبع يتمركزون في مكان ما في روسيا)، وكتقدير جمعي من جبابرة أميركا لروح البطل الخارق سوبرمان الذي قضى نحبه في مواجهة سابقة: هناك «فلاش» أو الرجل البرق (عازرا ميللر)، وأكوامان (جيسن موموا)، وسيابورغ (راي فيشر)، وسوبرمان (هنري كافيل). لكن أهمهم جميعاً «المرأة الخارقة» التي تلعب شخصيتها (للمرة الثالثة على الشاشة) الجنديّة الحسناء في الجيش الإسرائيلي غال غادوت. تقدّم «وورنر بروس» الرجل الوطواط (للمرة الخامسة هذه المرة ضمن مشروعها لإعادة إطلاق كل الشخصيات الخارقة بطور جديد) بوصفه يكسب الأصدقاء، فيعاونونه على مواجهة وحوشه الحقيقيّة والعاطفيّة معاً. يتقرّب الرجل الوطواط من المرأة الخارقة التي لا يستطيع مقاومة سحر قوامها الممشوق، مع إهمال تام لموضوع علاقاته المثليّة المحتملة. كما ويبدو على غير عادته دون صلفه المعهود معتذراً دائماً عن دوره في مقتل سوبرمان (النبي موسى الأميركي في شكله المعاصر)، وملقياً المحاضرة تلو الأخرى عن أداء الواجب العام والأخلاقيّات. وقد أنفقت الشركة المنتجة على الفيلم الذي يعد من أعلى الأفلام الأميركية كلفةً عبر التاريخ، ما يقارب 300 مليون دولار عبر عشر سنوات من التحضير. وكلّفت به زاك سنايدر الذي أخرج نسختين سابقتين من أفلام باتمان (مان أوف ستيل – 2013) و(دون أوف جاستس – 2016). رهان «وورنر بروس» أخفق إخفاقاً ذريعاً في تحقيق أهدافه سواء فيما يتعلق بالعمل الفني، أو في إعادة تأهيل شخصيّة باتمان القلقة أو حتى بمقاييس عوائد شباك التذاكر، رغم أن شخصية باتمان بحد ذاتها قادرة دوماً على جذب قطاعات من المشاهدين، فكيف وهو مع شلة أصدقاء وبصحبة غادوت الخارقة التي تكشف من جسدها أكثر ما تخفي؟ لكن تجمع الشخصيات الخارقة هذا بدا من دون رابط مقنع، ولم تنجح أي منها في الخروج من مأزق الضحالة، وتفكَّكَ السرد بسبب محاضرات باتمان المملة وتردد شخصيته بين الذكوريّة الجارحة واللّطف المفتعل والاعتذارات المتكررة، وكذلك الحركات البهلوانيّة عديمة المعنى التي نفذت أغلبيتها الساحقة عن طريق التطبيقات الإلكترونيّة. هكذا، تستحيل الساعتان (مدة الفيلم) بمثابة حلقة بايلوت ربع مسلوقة لاستكشاف تداخل عوالم هذه الشخصيات معاً في دراما من الدرجة الثالثة.
ولعله مما زاد الطين بلّة بالنسبة إلى «وورنر بروس»، ذلك الأداء الباهت لبن أفليك الذي بدا هذه المرّة كأنّ بدلة الوطواط هي المكان الأوحد الذي لا يريده ملاذاً. أمر دفع النقاد إلى القول بأن «رابطة العدالة» هو نهاية عهد أفليك بأدوار باتمان السينمائيّة، وأنه ربما يعاني بسببه من اللعنة ذاتها التي كادت أن تقضي على مهنة جورج كلوني قبله (مع ذلك يبقى أسوأ باتمان في التاريخ بكل المقاييس).
وعلى ذكر النقّاد، فإن أغلبهم أجمع على ضعف «رابطة العدالة» البادي من النواحي الفنيّة والتقنيّة المحضة، فأعطاه موقع «روتن توماتو» المعروف على الإنترنت علامة 4/10، بينما صنّفته «التليغراف» البريطانّية بالنجمة الواحدة، أي أسوأ تصنيف ممكن. وتمنى أحدهم على «وورنر بروس» أن تمتنع عن إطلاق الجزء اللاحق من الفيلم الذي يتم الإعداد لإطلاقه فعلاً عام 2019. وقد حاول بعضهم تبرير ركاكة الفيلم بانسحاب مخرجه سنايدر في اللحظات الأخيرة لدى تبلغه نبأ انتحار ابنته المراهقة. لكن الواقع يشير إلى «أنّ الآلهة نفسها لم يكن ليمكنها إنقاذ الفيلم من الركاكة» على حد تعبير أحد النقاد.
سفينة «رابطة العدالة» الغارقة هذه، ليس مسؤولاً عن فشلها بين أفليك وحده بالطبع. فالنجوم الآخرون - وهم كممثلين ناجحون عموماً في أعمال أخرى - لم يحصلوا على مساحات أو عمق شخصيات لإظهار قدراتهم الدراميّة. ضاعوا جميعاً في الضجيج والخدع البصريّة وثرثرة باتمان. الاستثناء الوحيد كان ذلك العمل الملحوظ لتلميع غادوت شخصياً في دور المرأة الخارقة، من خلال منحها الوقت والدور لإظهارها كالبطل الحقيقي الذي لا تزعزه الأنواء، وبالتأكيد كقطب الفيلم الأنثوي الذي ينتج توتراً جنسيّاً في مواجهة ذكوريّة باتمان الطاغية بالافادة أساساً من حضورها الجسدي. غادوت – المدربة السابقة في قوات النخبة الإسرائيليّة التي شاركت في العدوان على لبنان وجندية الاحتياط الحاليّة – بدت أكثر المستفيدين من تمديد ظهورها شبه الدائم على الشاشة بداية من «باتمان في مواجهة سوبرمان»، مروراً بفيلم البطولة المطلقة «المرأة الخارقة» وانتهاء بـ «رابطة العدالة». وهي لذلك تتوقع الاستمرار في تقديم تلك الشخصيّة لعقد مقبل ما دامت قادرة على الاحتفاظ بقوامها.
حقق الفيلم حتى الآن مبيعات تجاوزت الـ 285 مليون دولار في شباك التذاكر، لكنه قصّر في أسبوعه الأول عن استقطاب مستوى الجمهور الذي تشهده عادة صالات العرض في أفلام باتمان وسوبرمان السابقة. ولا أحد يبدو متفائلاً في إمكان تجاوز حاجز الـ 600 مليون دولار لتحقيق نقطة التعادل الاقتصاديّة لتكاليف الإنتاج والتسويق. لقد تحولت «رابطة العدالة» ومشروع «وورنر بروس» لإعادة إطلاق شخصيات الرسوم المصورة بمجمله إلى أكبر ثقب أسود في فضاء الثقافة الشعبيّة الأميركيّة: يمتص الأموال والمخرجين والفنانين والمشاهدين بلا عودة. الأميركيّون لا يزالون يحبّون باتمان بالتأكيد، لكنهم لا يريدونه وهو يعتذر عمّا فعل. هكذا هي الثقافة الأميركيّة، وعلى «وورنر بروس» أن تخضع لمنطق هذه الثقافة أو تنتهي على حافة إفلاس مالي بعد الإفلاس الفكري والأخلاقي.