بدأ الطلب على الدولار ينحسر في السوق المالية رغم أن مؤشّرات السيولة بالليرة اللبنانية لدى المصارف لا تعكس هذا الأمر، مع بقاء فائدة الانتربنك عند مستوى 105% واستمرار المصارف بإغراء الزبائن بفائدة مرتفعة على الودائع بالليرة.
وتعزو مصادر مصرفية استمرار فائدة الانتربنك (فائدة الإقراض من يوم ليوم بين المصارف) عند مستوى 105%، إلى النقص الحاد في السيولة المصرفية بالليرة بسبب الإجراءات التي اتخذها مصرف لبنان عند بدء الأزمة، مانعاً تحريك الحسابات المجمدة والدفع الفوري لشراء الدولار وحسم السندات. وقد تبيّن أن هذا النقص مصدره بعض المصارف الكبيرة التي لم تكن لديها سيولة كافية لتلبية طلبات المودعين بتحويل أموالهم من الليرة إلى الدولار، فلجأت إلى مخالفة توجيهات مصرف لبنان بالتسديد الفوري لطلبات شراء الدولارات، ثم غرقت في هذا المسار خلال الأسبوعين الماضيين لتصبح حساباتها لشراء الدولارات مكشوفة (سلبية) أمام مصرف لبنان، اي ما يسمى مراكز قطع مكشوفة.

المسار في تداولات اليوروبوندز يعود إلى شكله الطبيعي



وتقول المصادر إن سدّ نقص السيولة بالليرة، بما فيه تمويل انكشاف المصارف في مراكز القطع، يتطلّب وقتاً. إذ ليس في إمكان السوق هضم هذه المشكلة سريعاً من دون أن يعمد مصرف لبنان إلى ضخّ السيولة في السوق. لكن هذا الخيار ليس مطروحاً من اساسه، إذ أن سياسة مصرف لبنان النقدية قائمة على تجفيف السيولة في السوق لرفع قدرته على ضبط الكتلة النقدية وتقنين التحويل من الليرة إلى الدولار. ويرى المصرف أن توفير السيولة بالليرة سيموّل، حتماً، في ظل هذه الظروف، عمليات شراء الدولار.
على أي حال، فإن المصارف التي أصابها نقص السيولة كانت قد وظّفت قسماً كبيراً من سيولتها بالليرة في أدوات مالية متفرعة من الهندسات المالية التي نفذها مصرف لبنان في 2016 و2017. وسلوكها المتهور دفع سلامة إلى القاء اللائمة عليها في اللقاء الشهري الأخير مع مجلس إدارة المصارف. غير أن سلامة نفسه عاد وأعفاها جزئياً عندما وعد بمنحها إعفاءات أو التخفيف من الغرامات المفروضة عليها بسبب تجاوز مراكز القطع العملانية (مستوى السيولة المفروض عليها وفق تعاميم مصرف لبنان).
أما ارتفاع الفوائد على الودائع بالليرة إلى أكثر من 10% على الودائع المجمّدة لفترة لا تقل عن ثلاثة أشهر، فهو بدأ مع ارتفاع الطلب على الدولار وعدم قدرة بعض المصارف على تلبية طلبات الزبائن الراغبين بتحويل ودائعهم من الليرة إلى الدولار. عندها، اندفع بعض المصارف نحو رفع الفوائد على الليرة لإغراء الزبائن ومنعهم من التحويل إلى الدولار. وتردد يومها أن المصارف قامت بهذا الأمر بإيعاز من سلامة، لكنه إيعاز لم يصل إلى كل المصارف، بل اقتصر على مصرفين اثنين عانيا أزمة كبيرة في هروب الودائع. لكن الحاكم لم يلبث أن منح المصارف الغطاء الشامل لرفع اسعار الفائدة على الليرة في اللقاء الشهري الأخير وأبلغها بضرورة إغراء الزبائن بعدم التحويل من الليرة إلى الدولار «مهما تطلب الأمر من رفع للفوائد».
وجاء هذا الغطاء ليتيح لباقي المصارف التحرّك بحرية لرفع الفوائد من أجل استقطاب زبائن من المصارف الأخرى. فمن المعروف أن المصارف تسعى في آخر شهرين من كل سنة لتحسين ميزانياتها من خلال التنافس الشرس على المودعين.
إذاً، ما يحصل في السوق المالية المحلية لا يعكس حقيقة الأجواء الإيجابية السائدة خلافاً لما يحصل في سوق السندات المصدرة بالعملات الأجنبية التي يتم تداولها في الخارج. فقد سجّلت سندات اليوروبوندز ذات الأجل الطويل ارتفاعاً في اسعار تداولها من 84 دولاراً في ايام الأزمة الأولى إلى 95 دولاراً أخيراً. وعاد المسار في تداولات اليوروبوندز إلى شكله الطبيعي نسبياً إذ كانت عوائد السندات القصيرة الأجل، أيام الأزمة، أعلى من الطويلة الأجل، وهذا ما كان يعدّ مؤشّراً خطيراً، إلا أن المنحى عاد اليوم إلى شكله الطبيعي.
وتجدر الإشارة إلى أن سلامة زار أمس رئيس الجمهورية وأبلغه عودة الهدوء إلى السوق المالية وتحسن أسعار سندات اليوروبوندز. وهذا الكلام الإيجابي يعتبر مطلعون أنه ليس الحقيقة الكاملة. إذ أن الدولارات التي اشتراها الزبائن من مصرف لبنان بعد تحويل ودائعهم إلى الليرة، عادت إلى المصرف لأن القسم الأكبر منها لم يخرج من لبنان، بل أودعه الزبائن لدى المصارف ثم قامت هذه الأخيرة بإيداعه لدى مصرف لبنان! ما يعني أن الدولارات الوحيدة التي خسرها «المركزي» من احتياطاته بالعملات الاجنبية هي تلك التي خرجت من لبنان.