لم يكد يجف الحبر بعد عن الاتفاق التاريخي الذي وقعته إيران مع القوى الدولية في شأن برنامجها النووي، حتّى بدأت تحركات نووية من نوع آخر، تتعلّق بسعي الشركات والدول للاستفادة من الاقتصاد الإيراني المتعطش للتكنولوجيا، والرساميل والخبرات.أولى بشائر الحج الاقتصادي إلى طهران ظهرت من برلين، التي ينطلق منها خلال الأيام القليلة المقبلة وفدٌ اقتصادي بقيادة نائب المستشارة، سيغمار غابريال، في استجابة سريعة لمطالب مجتمع الأعمال الألماني، الذي يُعدّ الأقوى في أوروبا. تقضي تلك المطالب بتفحّص الفرص المتاحة والإطباق على ما يتيسّر منها؛ والجائزة كبيرة لا شكّ، فهي على المستوى التجاري وحده قد تقارب 15 مليار دولار، وفقاً لتقديرات نشرتها صحيفة «فايننشال تايمز» أخيراً.

تحتاج إيران إلى كلّ شيء: الهواتف الذكية، الطائرات وقطع الغيار، وصولاً إلى التكنولوجيا الرفيعة لتحديث قطاعها النفطي، وهذه الحاجة تمثّل حافزاً مغرياً للشركات والبلدان التي بدأت تفرك محافظها على وقع المؤتمرات الصحافية لوزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف.
فلنبدأ بالأجواء، حيث يبدو أنها ستكون من نصيب الأميركيين، وتحديداً شركة Boeing. فأسطول الطائرات لدى الجمهورية الإسلامية عانى الأمرّين، خلال العقدين الماضيين، واليوم يبلغ متوسط عمره 20 عاماً ويئنّ لمعدات وتجهيزات حيوية لعمله الأساسي؛ بلغة الأرقام التي تقدمها الهيئة الإيرانية للطيران المدني، فإنّ الحاجة الإيرانية المباشرة في هذا المجال تقارب 8 مليارات دولار.
ولا شكّ أن النقاشات الجانبية بين أعضاء الوفود الدبلوماسية، من الإيراني وصولاً إلى كلّ وفد من دول مجموعة الخمس زائدةً ألمانيا، تطرقت إلى الفرص الاقتصادية الدسمة، من العيار المذكور، التي يتيحها الانفتاح على إيران والسماح لها بالازدهار اقتصادياً.

تدريجاً ومع الارتياح
الاقتصادي سيقرّر عدد متزايد من المهاجرين البقاء في بلادهم

وقد استغلّ الفريق الدبلوماسي الفذ الذي يقوده ظريف جميع الظروف المتاحة لكي يحقّق لبلده نصراً مباشراً على الصعيد الاقتصادي: سيتم رفع العقوبات الأهمّ، وهي تلك المفروضة على القطاعين المالي والطاقوي، في وقت لاحق هذا العام على الأرجح، وذلك بالتوازي مع بدء تطبيق طهران التزاماتها المنصوص عليها في اتفاقية فيينا، علماً بأن الجانب الأميركي كان يعمل لإبقاء العقوبات إلى حين تنفيذ البنود كلياً، فيما السقف الأعلى الذي طرحه الإيرانيون هو رفع العقوبات مباشرة قبل تحقيق أي شيء.
في المجال المالي، تحتاج إيران إلى تزييت عجلات مصارفها ومؤسساتها المالية المختلفة، وهنا من المتوقع أن يلعب لبنان دوراً أساسياً نظراً إلى الخبرات المالية والمصرفية الكبيرة التي يتمتع بها، إضافة إلى العلاقات الإقليمية التي شبكتها مؤسساتها على مر السنين. وبحسب موقف معهد التمويل الدولي، فإن دور لبنان يتمثل في تأمين التمويل وتأمين تدفقه، إضافة إلى إدارة الاستثمارات اللازمة التي يحتاجها الاقتصاد الإيراني.
ومع الانتقال إلى الشق الآخر الحساس من «النصر الإيراني»، تبرز الحلقة المهمة من الحالة الإيرانية الجديدة: عودة النفط الإيراني إلى الأسواق العالمية. حالياً، يعيش هذا القطاع حالة من الترهّل القاتل. للخروج منها على نحو كامل، تحتاج إيران إلى استثمار ما يفوق 200 مليار دولار، بحسب البيانات المتاحة لـ«فايننشال تايمز» نفسها.
هذه الاستثمارات لن تخرج من خزنة الدولة ــ أي من جيوب المواطنين الذين أضناهم التضخم وأضحوا يتبضعون حاملين كميات مُتعبة من الريالات، تماماً كما كانت حال الألمانيين مع المارك بعد الحرب العالمية الثانية. بل على العكس تماماً، فشركات أوروبية مثل ENI وRoyal Dutch Shell وحتى شركات أميركية وآسيوية يسرّها كثيراً أن تستثمر مبالغ دسمة من محافظها للحصول على فرص باستغلال الحقول أو تطوير المصافي.
ستسعى تلك الشركات إلى إعادة الإنتاج الإيراني من النفط إلى مستوياته التي كانت سائدة عشية انطلاق العقوبات الاقتصادية ضدّ إيران؛ حينها كان التصدير عند 2.5 مليون برميل يومياً، مع العلم بأن أولى العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي ــ وتحديداً الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي ــ على القطاع النفطي الإيراني كانت في عام 2002، حيث سرّب إيرانيون معارضون أدلّة عن وجود مفاعل ناتنز للتخصيب النووي. من بعدها توالت العقوبات وتمثّلت بأربعة قرارات عن الأمم المتّحدة ومجموعة من الإجراءات العقابية مالياً من جانب الولايات المتّحدة وأوروبا، فضلاً عن الحرب الاستخبارية والإلكترونية المباشرة التي شنتها الولايات المتّحدة وإسرائيل، ووصلت إلى أوجها مع فيروس Stuxnet الذي نجح في تعطيل المئات من أجهزة الطرد المركزي التي تُستخدم في تخصيب المواد النووية.
ولكن رغم استعادة النفط الإيراني نشاطه على مستوى التطوير والاستخراج، يبقى الأهم استعادة موقعه في السوق؛ وهي حصّة كسبها العراق والسعودية. غير أن لطهران خيارات كثيرة على هذا الصعيد، من بينها العقود الثنائية المباشرة مع الأوروبيين حتّى لو كانت بأسعار أدنى من السائد، مع التشديد على أن العودة الإيرانية إلى سوق النفط ستكون تدرجية وتتمثّل بنمو في الصادرات يُقدّر بثلث مليون برميل بعد التطبيق المباشر للاتفاق، وصولاً إلى نصف مليون بعد عام كامل من تطبيقه.
هذا الأمر، معطوفاً على واقع أن المحادثات الماراتونية قضت على عامل المفاجأة، يؤدّي إلى الاستقرار النسبي في أسعار الخام، على الرغم من أن الانطباع الأولي يكون بأنها ستنخفض مع توقع عودة الإيراني إلى السوق. غير أن الواقع قد ينقلب كلياً في نهاية عام 2016، حيث تتوقع شركة الاستشارات الطاقوية الأميركية Clearview LLC أن عودة النفط الإيراني ستؤدي إلى خسارة البرميل 12 دولاراً من سعره.
ومن النفط إلى التصنيع والسياحة والصادرات الغذائية، في جميع هذه المجالات ستكون إيران مستعدة لموجات سخية من الاستثمارات ومن مخططات التطوير والانفتاح الاقتصادي. وستكون عودة القوى العاملة إلى قطاع صناعة السيارات مثلاً ــ التي خسرت نصف نشاطها بسبب فقدان قطع الغيار ــ وحدها كافية لشدّ معدّل البطالة المرتفع نزولاً.
وتدريجاً مع الارتياح الاقتصادي الذي ستشعر به البلاد، سيقرّر عدد متزايد من الإيرانيين الذين يهجرون البلاد سنوياً ــ ومعدلهم 150 ألفاً من أصل تعداد سكان عام يفوق 78 مليون نسمة ــ البقاء في بلادهم. صحيحٌ أن هكذا أنماط أو تقلبات على مستوى حركة الهجرة قد تؤخر مخططات الحكومة لخفض معدل البطالة إلى دون 10% في عام 2016، إلا أنها أساسية للحفاظ على اليد العاملة الخبيرة والمتعلمة.
هكذا سيحصل كلّ قطاع من الاقتصاد الإيراني ــ الذي يتوق إلى تخطّي حجمه نصف تريليون دولار ــ على حقنة استثمارية أو تحريرية خاصة، ستُسهم مجتمعة برفع الأهمية الاقتصادية العالمية لإيران.