مهما كان شكل الأزمة السياسية الراهنة ومستقبلها، فإن من المفارقة الكلام اليوم عن الاحتفال بعيد الاستقلال. فأيّ استقلال سيحتفل به لبنان، فيما يشتد الصراع الداخلي مجدداً، على خلفيات إقليمية، بما يعيد التذكير بمراحل مشابهة بخطورتها ودقتها. فبين الاتجاهات السورية والسعودية والايرانية والاميركية، وفي ظل عودة الانقسام السياسي ولغة التخاطب الحادة التي كانت انحسرت في السنوات الاخيرة، لا يمكن تخيل مشهد الاحتفال والاستعراض العسكري، ولبنان يعيش على مفترق خطر. فما يحصل هو تطور إقليمي خطر، أكبر من قضية استقالة الرئيس سعد الحريري، وأين هو وكيف سافر وكيف ستبتّ الاستقالة وتحولها محط اهتمام محلي ثم دولي.
لأن مجرد حصول هذه الخطوة، مهما كان شكلها، يعني أن لبنان عاد مجدداً ساحة صراع إقليمي بكل ما يفترض ذلك من مواجهات، بدليل تحوله خبراً أول في وسائل الاعلام الدولية، وعاد يتصدر تصريحات المسؤولين الدوليين. فما يُقبل عليه لبنان من المنظار السعودي وعلى لسان المسؤولين السعوديين من دون مواربة، سيتطور في اتجاه يدخل البلد مجدداً في عمق الازمة الاقليمية. وإذا كان سبق للبنان أن عاش تجربة الصراعات الاقليمية على أرضه أكثر من مرة، إلا أن تكرار هذا الواقع يفاقم الارتدادات السلبية، لأن كل تجربة سياسية وأمنية وعسكرية سبق أن خبرها، خلقت مجموعة من المشكلات والارتدادات أحدثت شرخاً واسعاً على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فكيف الحال وأزمة اليوم تقع في ظرف تتضافر فيه عوامل الحرب السورية وأزمة النازحين السوريين ووضع المخيمات الفلسطينية، وتدهور الوضع الاقتصادي، فضلاً عن واقع الفساد والاهتراء في المؤسسات الرسمية، ليضاف مجدداً عامل الأزمة السياسية بعد استقرار وهمي لأشهر بسيطة.
بعض من يتابع العلاقات اللبنانية السعودية يتحدث عن ثلاثة مستويات من المواجهة الحالية:
أولاً، توصيف المواجهة. الكلام السعودي يتحدث عن أزمة أكبر من مجرد استقالة الحريري، لأن الاستقالة هي نتيجة وليست سبباً.

عنوان الاستقرار
لم يعد يعني للرياض سوى الانحياز اللبناني الرسمي الى إيران

والازمة مفتوحة من واشنطن الى الرياض ودول الخليج وصولاً الى لبنان، كساحة احتكاك مباشر مع إيران. وهذا يعني أن تصويب الاتجاه اللبناني أولوية، وأن المطلوب تزخيم المعارضة لحزب الله وعدم السماح بأن تكون له الكلمة الاولى لبنانياً. بدا للذين يطّلعون على المواقف السعودية للمسؤولين الجدد فيها، أن لا ثقة للرياض «الحالية» بكثير من المسؤولين اللبنانيين ولا بالمؤسسات الأمنية، وهي أيضاً لن تغامر مجدداً بتسويات ظرفية لا يمكن الركون اليها إلا لبضعة أشهر. وإذا كان المجتمع الدولي قد أبدى حرصه على عنوان الاستقرار وشدد عليه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لدى إعلانه نيته زيارة السعودية، وكذلك فعلت الرياض، إلا ان هذا العنوان لم يعد يعني بالنسبة اليها سوى الانحياز اللبناني الرسمي الى إيران، وهو ما ترفضه. ثمة مؤشر واضح هو تجاهل الرياض المتعمّد للبنان الرسمي، في شكل عام، وحصر تعاطيها برئاسة الحكومة فقط، وردّ فعلها عبر هذه الرئاسة فحسب.
ثانياً، يمكن الكلام عن أن حالة الضياع التي يعيشها لبنان حالياً، على وقع مصير الحريري واستقالته، تحولت سلاحاً من أسلحة المواجهة، لأن الرياض لم تكشف أوراقها دفعة واحدة. بل إن تعمّد إحداث الغموض حول وضع الحريري وعائلته الصغيرة والكبيرة، وعدم السماح للمقربين منه في بيروت بمعرفة أي تطور يعيشه أو يقبل عليه، يسهمان في زيادة مستوى الضغط السياسي على الوضع اللبناني، إضافة الى أن السعودية تعتبر أنها سحبت ورقة أساسية من أيدي خصومها في لبنان، وهي ورقة الحكومة والتغطية التي كان الحريري يوفرها لهم. وهذا يعني أنها أفقدت خصومها عنصر المبادرة والتحكم في اللعبة الداخلية. كذلك فإن انشغالها بترتيب الوضع السعودي الداخلي يعزز انصرافها عن تسويات لبنانية، تجري بهدوء ومن دون استعجال. فهي تريد إحكام الضغط على خصومها من خلال شلّ الحركة الداخلية ومضاعفة ما تملكه من مفاتيح لإدارة الازمة اللبنانية. لذا توسع حركتها اللبنانية في اتجاهات مختلفة، وبوجوه لم تكن هي في الصف الاول خلال الاشهر القليلة الماضية.
ثالثاً، تتفاوت النظرة الى الأسلوب الذي يمكن أن تتبعه الرياض في محاكاة الأزمة اللبنانية الحالية والضغط التصاعدي الذي تمارسه من أجل إعادة التوازن اللبناني، بحسب رؤيتها. لا يمكن التكهن لبنانياً بما تقدم عليه الرياض، تصاعدياً لجهة الضغط الاقتصادي على لبنان، وخصوصاً أنها تحظى في ظل شهر العسل بينها وبين إدارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب بتغطية لأي إجراءات يمكن أن تقدم عليها تحت سقف المواجهة التي تريدها في لبنان ضد إيران. الدعوة الى سحب الرعايا السعوديين من لبنان، خطوة أولى، ووقف إجازات عمل وإقامات وطرد مئات اللبنانيين من السعودية، يبقى في خانة الترقب اللبناني للخطوات التالية التي قد تتعمّم خليجياً. وخصومها يتحدثون عن احتمالات تحريك المخيمات الفلسطينية وتجمعات النازحين السوريين، كمحاولة لزرع البلبلة الأمنية.
المشكلة التي أحدثتها السعودية اليوم هي أن خطواتها، بعدما شهدته من توقيفات بالمئات وتجميد حسابات لنافذين فيها وفي العائلة المالكة ورجال دين وموظفين في هيئات دينية، لم تعد معروفة. وهذا تماماً ما تريده أن يحدث، في خلق حالة غموض حول المرحلة التالية.