منذ إعلان الرئيس سعد الحريري استقالته من رئاسة الحكومة، ظهر أول من أمس، ظهر قادة تيار المستقبل في صورة المهزومين والمنعزلين والمحبطين. ينتظرون الرئيس الذي يتوقّف عليه كل شيء داخل التيار.
فقبل يوم واحد فقط من مفاجأة الحريري، اجتمع أحد المقربين من الأخير بعدد من السياسيين، لنقل أجواء الزيارة الأولى التي قام بها للمملكة العربية السعودية. قال بما معناه إن «الأمور إيجابية. وسترون خلال أسابيع تطورات جيدة جداً على الساحة اللبنانية. ستغدق المملكة خيرها على البلد». وحين سُئل المسؤول المستقبلي عن التفاصيل، أجاب: «لن نخوض بها. لكن بشكل عام هكذا وصلتنا الرسالة». أحد المقربين من الحريري كان قبل ظهر السبت مجتمعاً بضيف زاره، واستمر في ترويج رسالة «الخير الآتي من السعودية» حتى ما قبل دقائق من نشر قناة «العربية» خبر استقالة الحريري. وبُعيد مغادرة الضيف بوقت قصير، اتصل به المسؤول المستقبلي قائلاً: «نسيت خبرك إنو الرئيس الحريري استقال»! في هذه اللحظة، كان لبنان كلّه قد أصبح تحت تأثير الصدمة. جاء وقع الاستقالة مدوّياً، في تطور دراماتيكي غير متوقّع. أطاح الحريري كل شيء: انطلاقة العهد والتسوية والعلاقة مع الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحر. أسقط ربط النزاع مع حزب الله. صدم الجميع، وأولهم مستشاروه والمقربون منه وشركاؤه السابقون. لم يكُن أحد على علم بهذه الخطوة التي عاكست كل المناخ الذي رُوّج له منذ بداية الأسبوع. تيار المستقبل نفسه فوجئ كسواه بهذه الخطوة المباغتة، وظهر كأنه آخر من يعلم.

فور إعلان النبأ، لم تهدأ هواتف وزراء التيار الأزرق ونوابه وشخصياته. فكان الجواب «نحن لا نعلَم شيئاً. حقاً لا نعلم أي شيء». وفي موقف يزاوج بين الحيرة والدهشة، علقّ مصدر بارز في التيار قائلاً «لا نعرف أين الرئيس الحريري. ولا نعرف ما الذي حصل له ومعه. كل ما نعلمه أنه ذهب للقاء الملك قبل أن ينقطع الاتصال به»! وفي كلام أظهر طابع الوهلة الأولى، أضاف «نحن أمام زلزال سياسي شبيه بلحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأزمة حُكم. علينا أن ننتظر، حتى نستطيع التواصل مع سعد، وينجلي الغبار ونبني على الشيء مقتضاه». أكثر ما حيّر المستقبليين طوال بعد ظهر يوم السبت هو عدم قدرتهم على التواصل مع الحريري. فالساعات الست التي تلت إعلان الاستقالة كانت ثقيلة، لأنه لم يستطع أحد منهم التحدّث معه هاتفياً للاستفهام منه عن الأسباب التي دفعته إلى الانقلاب على نفسه وإسقاط حكومته. حتى مدير مكتبه، والمستشارون الآخرون، لم «يلتقطوا أنفاسهم قبل السابعة من مساء السبت، عندما تمكّنوا من التحدّث معه هاتفياً». ورغم ذلك، لم يطمئنوا. فكلامه اقتصر على العموميات: «إن شاء الله خير». «نلتقي قريباً». «المهم الاستقرار». وعندما اقترح بعضهم عليه أن يزوروه في السعودية، أجابهم بالقول: «إذا احتجت لأحدكم، فسأطلب حضوره». وفهم المتصلون بالحريري أنه لا يريد أن يقصده أحد من معاونيه.
تحليلات واستنتاجات كثيرة أحاطت باستقالة رئيس الحكومة، من دون أن يتأكد منها شيء، وخصوصاً أنها ترافقت مع تساؤلات بدأت من طريقة إعلانها، مروراً بالمكان الذي أعلنت منه، وأسبابها والوقائع التي سبقتها، وصولاً إلى الاعتقاد بأن الحريري موضوع في الرياض «بإقامة جبرية». حتى في الشّكل، لم يبلَع المستقبليون «الفيلم السعودي» لا إخراجاً ولا مضموناً، حيث ظهر الحريري «مُجبراً». أكثر مروّجي نظرية «الإجبار» كانوا أعضاء الدائرة التي دأبت منذ انتخاب العماد ميشال عون على التحذير من خطر ضرب التسوية. من الناحية الأمنية «لم يكُن هناك ما يشير إلى أي تهديد أمني يُحيط بحياة الرئيس الحريري، فالرّجل كان يتجوّل في بيروت بشكل طبيعي ومريح»، أما من الناحية السياسية «فإن «السياق الذي ظهّره الرجل بعد عودته من الزيارة الأولى، ومن ثمّ الذهاب مرّة أخرى، ينمّ ربّما عن تعرّضه للخديعة». الثابت «أننا على مشارف أزمة خطرة جداً، ولا سيما في حال عدم عودته». وعودته هذه لا يُمكن التكهّن بها، لأنه بحسب مصادر مستقبلية بارزة «التواصل معه يقتصر على السلام والاطمئنان، من دون التطرق إلى أي نقاش سياسي بالمطلق»، مع التأكيد أنه «موجود في منزله، لا في أحد الفنادق كما أشيع، وهواتفه لا تزال معه».
لا يُمكن حصر هذه الاستقالة بحسب المصادر «بأي سياسة داخلية»، بل هي حُكماً «تدخُل ضمن إطار المواجهة السعودية – الإيرانية التي لم يتلقّفها الرئيس الحريري، وحاول النأي بالنفس عنها».

بقي الحريري «خارج السمع» 6 ساعات بعد إعلان استقالته
أما الحديث عن «أنه جرى توقيفه في المملكة، أو أنه معاقب على استقبال الموفد الإيراني، فكل ذلك يبقى في إطار التحليلات والأسئلة التي لا يُمكن أن يحسمها سوى الحريري نفسه». لكن على الأقل يمكن استخلاص نتائج أولية لهذه الاستقالة، بحسب مصادر رفيعة المستوى في تيار المستقبل:
ــــ أولاً، أنها دفنت التسوية مع ميشال عون. أنزلت الملفات الخلافية من على الرفّ، وأعادتنا إلى المربّع الأول.
ــــ ثانياً، شكلّت هذه الاستقالة ضربة قاضية للعهد، الذي كان مهزوزاً نتيجة الصراعات الداخلية بين تياراته وأحزابه.
ــــ ثالثاً، فقدت التسوية أحد أضلعها. ولن يكون في مقدور أي شخصية سنّية أخرى أن تحلّ محلّ الحريري في هذه المرحلة، خوفاً من غضب المملكة والشارع معاً.
ــــ رابعاً، فتحت الاستقالة باباً أمام كل الاحتمالات. الأقل سوءاً فيها، عودة الانقسام إلى الشارع، وإعادة إحياء فكرة 8 و14 آذار، الأمر الذي سيرفع سقف المواجهة السياسية مع حلفاء إيران، ويعيد إحياء «ثورة الأرز وهي رميم».
ــــ خامساً، أكدت المملكة عبر الحريري، لجميع من يدور في فلكها، أن لا صوت يعلو فوق صوتها، ولا يستطيع أحد أن يغرّد خارج سربها.
وكان بارزاً أن هذه الاستقالة وحّدت خطاب جميع أجنحة المستقبل في الكواليس. فخلال اجتماع كتلة «المستقبل» النيابية أول من أمس، «رجّح أكثر من نائب مستقبلي أن يكون الحريري موجوداً كرهينة، للضغط سياسياً على لبنان، وفرض شروط لإعادة تشكيل حكومة لا يُشارك فيها حزب الله». لكن «لن يكون بمقدور أحد المطالبة بعودته ولا الإشارة إلى وجود لغز، حيث لا دليل ولا إثبات على ذلك». وقد عادت مصادر الكتلة الى ما قبل مغادرة الحريري إلى الرياض، مرددّة كلاماً قيل في أحد الاجتماعات السريعة معه، مشيرة إلى أنه «كان أكثر من متفائل، حتى بشأن وضعه المالي»! هل يعني ذلك أن المملكة استدرجته لتوريطه؟ «يبقى اللغز في الساعات الأربع والعشرين الأخيرة» تقول المصادر، «إذ لم يلمس الحريري أي بوادر انقلاب ولا مواجهة ولا توتيراً للأجواء».
هل انتهى سعد الحريري؟ ولا سيما أن وزير الداخلية نهاد المشنوق كان قد اعتبر منذ أيام أن «التسوية مغامرة كبرى، ولكن فشلها سيعني نهاية الحريري». إجابة تيار المستقبل عن هذا السؤال قاطعة: «حتماً لا»، فالحريري حالياً «يحظى بأكبر نسبة من الدعم السياسي والشعبي، حتى من قبل الذين عارضوه سابقاً»، لكن «دوره سيكون مختلفاً عن الحقبة الماضية». مَن انتهى هو «الحريري التسووي الذي يملك هامش تحرّك واسعاً، بعيداً عن سياسة الرياض الصدامية».