يوم تاريخي بلا شك يفصل بين زمنين، ذاك الذي شهده العالم يوم أمس. نقطة فاصلة، لها ما قبلها وما بعدها. حدث كاشف عرّى الولايات المتحدة وبيّن للجميع حدود ما تمتلكه من قوة. ضابط إيقاع وضع سقفاً لقواعد الاشتباك في المنطقة. «خلاصة المفاوضات»، التي يتم تعريفها بأنها «اتفاق» بين إيران ومجموعة «5+1»، لم تعد ذات صلة بذاتها، بقدر ما تكمن أهميتها في دلالاتها. كثر سيسعون خلف المفردات والتعابير، بل ربما يحللون الفواصل والأرقام.
سيقارنون بين «النتيجة» و»الأهداف» ليبنوا استنتاجات الربح والخسارة. لن يتذكر هؤلاء، ربما، أن مجرد تفكير إيران في ولوج الغمار النووي كان محظوراً عليها تحت التهديد بالحديد والنار. بل سيتجاهلون على الأرجح أنها بنت برنامجها النووي كاملاً، ومن ثم فرضته على طاولة المفاوضات. هل مصطلح «الكعكة الصفراء» الذي أقام الدنيا ولم يقعدها على الجمهورية الإسلامية في بداية العقد الماضي لا يزال يعني شيئاً؟
صحيح أنه «اتفاق» قد يبدو مفخخاً، ويحمل في ثناياه الكثير من النقاط التي تسمح للطرفين بادّعاء تحقيق أهدافه، وهو بالتالي يحتاج إلى وقت من التمحيص لاستخراج الشيطان الكامن في تفاصيله، لكنه شكل مصداقاً لكثير من الاستنتاجات التي اعتبرت، خلال فترة خلت، أنها تحليلات.
لعل أول دلالاته إخراج «خيار الحرب» على إيران من دائرة التداول نهائياً. كان باراك أوباما قد عبر عن ذلك في أكثر من مطالعة (عادة لا تتلى إلا في دوائر مغلقة) أكد فيها أن الخيار الثاني، وهو العقوبات، لم يجد نفعاً ولم يمنع إيران من تطوير قدراتها النووية ولا من تمدد نفوذها في المنطقة، وبالتالي لم يبق من خيار سوى الحوار والتفاهم. بل أكثر من ذلك. أطاح الاتفاق، بما استبطن من إجماع إيراني عليه ضمن سقف «الخطوط الحمر» التي حددها المرشد، كل رهان على استخدامه كحصان طروادة لإثارة فتنة داخلية، أكد أوباما أصلاً أنه لا يعوّل عليها. اقتصر سقف الآمال الأميركي على إدخال الجمهورية الإسلامية في «ثقافة حوار» يمكن أن تؤدي بعد عقد من الزمن إلى تطويع طهران عبر المراهنة على الجيل الثالث للثورة، الذي لم يشهدها، ويفترض أن يكون قد تسلّم المواقع القيادية في البلاد بحلول ذلك التاريخ. يمكن المحاججة بأن الانجاز الوحيد الذي حققه الغرب هو إيجاد آلية تمنع طهران من امتلاك قنبلة نووية، هذا على فرض أنها كانت ترمي إلى ذلك أصلاً، وهذا فضلاً طبعاً عن فتح الطريق أمام شركاته لولوج الأسواق الإيرانية.

الاتفاق يعطي إيران هامشاً
أكبر من الحركة الإقليمية، مدعومة بالمقدرات التي سيمنحها إياها رفع العقوبات

في المقابل جاء الاتفاق ليحسم «نطاق التفاهم»، الذي بات واضحاً من خلال النص الذي وزع أمس أنه محصور بالنووي من دون أن يشمل الملفات الإقليمية. بل على العكس. كان واضحاً من خطاب السيد علي خامنئي قبل يومين أن الصراع مع الولايات المتحدة في المنطقة مستمر، بل سيشهد تصعيداً. صحيح أن إيران وافقت على إخضاع كافة منشآتها، وبينها العسكرية منها، للتفتيش، لكن وفق الآلية التي ينص عليها البروتوكول الإضافي لمعاهدة حظر نشر الاسلحة النووية، وهي آلية معقدة جداً إلى حد تجعل من هذا «الإخضاع» بلا قيمة عملانية. لكنها نالت مطالبها الأساسية منه، في مقدمها رفع كامل للعقوبات ومنع استجواب العلماء، مع الإبقاء على آراك مفاعل مياه ثقيلة وإن بإشراف الصين، فضلاً طبعا عن الاعتراف بها دولة نووية بدورة إنتاج إيرانية بالكامل.
أياً يكن من أمر، ما من شك في أن بلوغ هذا التفاهم يعكس إرادة سياسية من الجانبين للوصول إلى هذه الغاية، التي لا بد أن تضع حداً لاحتمال الصدام المباشر الذي كان يزيد من منسوبه التقدم النووي الصاروخي لطهران، والذي وضعها على حافة ثلاثة أشهر من امتلاك قنبلة نووية على ما يعترف به الغرب. وبالتالي، يشكل الاتفاق سقفاً لقواعد الاشتباك في المنطقة لا يمكنها تجاوزه. بل هو، بحكم وجوده، يحقق أمرين: الأول، عجز المجتمع الدولي عن فرض عقوبات على إيران تحت أي ذريعة من دون المخاطرة بإعلان إيران تحللها من التزاماتها بموجب هذا الاتفاق. والثاني، يعطي إيران هامشاً أكبر من الحركة الإقليمية، مدعومة بالمقدرات التي سيمنحها إياها رفع العقوبات، ومحررة من عقدة حافة الهاوية.
أما موضوع العقوبات، فهو ليس تفصيلاً مالياً، ولا يعني إيران فقط. هو عملياً سيدخل إلى الجمهورية الإسلامية حوالى 120 مليار دولار. ومتى؟ في أوج أزمة مالية تعصف بالعالم. ليس هذا فقط. سيعيدها الى نظام سويفت ويرفع الحظر عن التعاملات التجارية معها، مع ما يعنيه ذلك لآلاف الشركات الغربية الجائعة الى فرص استثمارية من هذا النوع، ستشكل بذاتها، عند تحققها، كابحاً للغرب ضد أي تصعيد للمواجهة مع إيران.
تبقى الرسالة الأبلغ تلك التي صدرت عن خامنئي خلال إفطار جمعه إلى الرئيس حسن روحاني وأعضاء حكومته مساء أمس. ففي الوقت الذي اعتلى فيه قادة العالم المنابر ومحطات التلفزة للإدلاء بدلوهم في التفاهم النووي، اكتفى المرشد بجملة واحدة حول هذا الموضوع، بالرغم من أنه كانت لديه كلمة مقررة في الإفطار. قال «نشكر جهود الوفد المفاوض الصادقة»، وحصر خطبته كلها في الحديث عن نصائح الإمام علي في رسالته إلى مالك الأشتر، حول ضرورة الحديث عن مواصفات الحكام السابقين بإنصاف الناس والتعامل معهم بتواضع. مقاربة رأت مصادر إيرانية مطلعة أنها «تعبّر عن رسالتين: الأولى للداخل بضرورة الهدوء والتصرف بعقلانية وعدم استغلال ما حصل في فيينا في المعارك السياسية الداخلية. أما الثانية فللخارج ومفادها ألا يعتقد أحد بأن إيران تقرر نومها ويقظتها على إيقاع ما يحصل في العلاقات مع الغرب».