في شهر أيار (مايو) من العام الماضي، توقعت مجلة «فوربس» الأميركية، اختفاء مهن عدة في الولايات المتحدة بفعل الأتمتة، والتقدم التكنولوجي السريع، مثل مهن سائقي الشاحنات، وعمّال البناء، والأطباء، والمحاسبين والباعة... وجزمَ تقرير أميركي آخر، بتحوّل الخدمات القضائية برمتها الى الممكننة، واختفاء العناصر البشرية منها.
في خضم ما سُمّي اصطلاحاً بـ «الثورة الصناعية الرابعة»، بعد ثورة تكنولوجيا المعلومات، كثرت التوقعات المعلنة عن انقراض مهن بكاملها، بفعل اجتياح الأتمتة والاستعانة بالذكاء الاصطناعي والروبوتات، مما يحمل آثاراً سلبية واضحة على رأسها انتشار البطالة. إذ يؤكد خبراء اقتصاديون أنّ هذه النسبة ستصل الى 50% عالمياً... فماذا عن الإعلام في لبنان، تحديداً المرئي منه، مع وجود عوامل عدة تعصف بهذا القطاع، من أزمات مالية وإفرازاتها القاسية كتسريح الموظفين وإقفال أقسام لطالما كانت ضمن أعمدة الصناعة التلفزيونية.
شهدنا هذا الأمر في قناة «الجديد» عشية تسرّب أزمتها الاقتصادية عام 2015، وتسريحها لموظفين، إضافة الى إقفال أقسام حيّوية داخلها كالديكور والرياضة. ومن ضمن العوامل أيضاً اجتياح التكنولوجيا وتغييرها لمعادلات في هذه الصناعة، فبات الإنتاج يستلزم القليل من الكوادر البشرية، والقليل من المعدات التقنية المتقدمة، والنتيجة صورة نقية وتخفيف للأعباء الاقتصادية على القناة.

تقنيات عالية من الكاميرات والكروما والغرافيكس، ضمن مشهدية مبهرة أطاحت بقسم الديكور في القنوات


كثير من المهن باتت اليوم، بحكم المهددة أو المنقرضة. تتقدم «الثورة الصناعية الرابعة» بقوتها، لتأخذ بدربها هذه المهن، وتفرز أخرى بإطارات مختلفة.
منذ زمن ليس ببعيد، كانت لوحة التحكم والمراقبة (monitor) أمام المخرج في غرفة التحكم كبيرة وتحتاج الى جهد في العمل والى وجود أشخاص مساعدين. اليوم، باتت هذه اللوحة أصغر، ذات تقنيات عالية، فاستُغني عن الأشخاص المساعدين، وحلّت الأزرار مكانهم، وصار الجهد المبذول أقل. وفي ما يخص الكاميرات التي غيّرت التكنولوجيا كثيراً في عوالمها وحلت الروبوتات محلها في بعض الأماكن، طرحت إشكاليات يمكن الاستفاضة فيها قليلاً.
إذ باتت القنوات التلفزيونية ــ بفعل أزمتها المالية ــ تستقدم أشخاصاً غير محترفين بالضرورة، وبكلفة أقل، ليديروا هذه الكاميرات التي سهلت التكنولوجيا التحكم بها. على سبيل المثال، تتم الاستعانة بمخرج للفقرات (segment director)، لإنتاج تقارير، وإدارة الصوت والكاميرا المتقدمة تقنياً فيها، وبكلفة
قليلة.
وهنا، بات السؤال يُطرح عن العاملين وأصحاب الخبرة المحترفين في هذا المجال، الذين صاروا إما بحكم العاطلين عن العمل، أو يشتغلون في أماكن أخرى غير مريحة لهم ولا تشبههم. وبهذا الأمر، حطمت القيمة المعنوية والمادية لهم على حد سواء. ومن الأقسام المتجهة الى الاختفاء: الديكور، الذي كنا قبلاً نشهد كادراً بشرياً هائلاً يشتغل لصناعته، من نجارين ومصمّمين، وحرفيين وتقنيين.
كاد الديكور أن يختفي في عدد من القنوات اللبنانية. على سبيل المثال تستخدم قناة nbn، منذ زمن بعيد تقنية «الكروما»، وهي عبارة عن اتكاء على خلفية باللون الأخضر، يتم تحويلها تقنياً عبر برامج الغرافيك الى ديكورات وزوايا مختلفة. شاهدنا ذروة هذا الاستخدام التقني العالي منذ انتقال المحطة الى بث HD (التقنية العالية)، حيث تركّز برامجها ونشراتها الإخبارية على هذه التقنية.
«الكروما» تقنية حساسة جداً، تحتاج ـــ خلال تحرّك الكاميرا من زواية الى أخرى ـــ الى حذر كي لا يشعر المشاهد بأنّ خللاً استجدّ على المشهد المرئي أمامه. ولعلّ الاستخدام الأعلى في هذا المجال رأيناه على شبكة mbc السعودية، وتحديداً في برنامج «المتاهة» (تقديم وفاء الكيلاني) الذي عرض قبل
عامين.
هنا، استُخدمت تقنيات عالية من الكاميرات والكروما والغرافيكس، ضمن مشهدية مبهرة. وبهذا، أسقطت عوامل الديكور وعدداً لا بأس به من المصوّرين، لصالح مسار يشق طريقه نحو الأتمتة وتغييب الحسّ الشخصي الإبداعي.
وفيما خص تقنيات الإرسال، بات صاحبه اليوم بحكم الغائب عن الحلبة، بفعل حلول الكمبيوتر مكانه، وبرمجته على مدى ساعات طويلة من البث، مع تدخل بشري طفيف. وكذلك الأمر بالنسبة إلى عاملي/ ات الاستقبال (reception) في القنوات التي حلت الآلة مكانهم.
هذه المهن أضحت بحكم المختفية، فأزاحت معها كوادر بشرية تعبت واجتهدت في ميدانها.
كلنا يذكر مهنة كانت حاضرة بقوة في التسعينيات وما قبلها على بعض المحطات اللبنانية. إنّها ربط الفقرات. صحيح أن وقتها لا يتعدى الدقيقة الواحدة في الكثير من الأحيان، لكنها في ذاك الزمن الجميل منه، كانت تتطلب الكثير من الجهد والرصانة والاطلاع، والتحضير الجدي لها، وإيجاد ديباجية مناسبة لها، مع ابتسامة ثابتة على الوجه، ومن معرفة تفاصيل سابقاً عن حلقة درامية مثلاً، والأحداث التي ستسود الحلقة الحالية، ومن اهتمام في المظهر. رغم ضيق المساحة المخصصة لهذه المهنة في التلفزيون اللبناني، إلا أنها أسهمت في تخريج أسماء كبيرة وبرّاقة في عالم الإعلام، وفتحت للعديد منها الانخراط في ميادين متقدمة، وصولاً الى انكفائها بشكل نهائي مع تغير الزمن، وابتلاعه هذه اللحظات التي لن تتكرر في زمانا الحالي




مذيعات الربط... إلى متحف الذاكرة

ربما قلة تعرف أن الممثلة السي فرنيني، بدأت مسيرتها في التلفزيون الرسمي كمذيعة ربط (1973) بسبب معارضة ذويها لدخولها في عالم الفن والتمثيل، وكذلك الإعلامية سعاد قاروط العشي، التي دخلت هذه المهنة منذ 46 عاماً، وبعدها فتحت أبواب تقديم البرامج أمامها، وأضحت طيلة هذه المسيرة الحافلة أحد أهم الأسماء في السجل الذهبي للإعلاميين/ات، وكذلك ريما نجم التي تلّقب بـ «عميدة المذيعات»، وسطعت بأسلوبها وثقافتها وبإتقانها اللغة العربية ومخارج حروفها، وجمعها بين اللغة المحكية والفصحى. ومن المذيعات اللواتي رسخن طويلاً في الذاكرة، كارين ديركالوستيان على lbci، وهيلدا خليفة على المحطة عينها. لكن تبقى تجربة ريما قرقفي (الصورة) مختلفة. الفتاة الآتية من العاصمة الأسترالية، نجحت بين عدد كبير من المرشحات الى وظيفة إعلان في محطة lbci. بدأت كمذيعة ربط، عام 1994، قبل أن تتنقل بين برامج عدة الى حين اعتزالها نهائياً مهنة الإعلام عام 2001، مع اقترانها برئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية. رغم عمرها القصير على الشاشة، إلا أن قرقفي الجميلة التي كانت تتعثر بكلماتها العربية، استطاعت ترك بصمة الى اليوم. شابة بمكياج خفيف وبثياب بسيطة، وابتسامة ساحرة، أسرت قلوب جيل التسعينيات، وأعطت رونقاً للشاشة الصغيرة. وهي ما زالت تشغل حيزاً على الساحة الداخلية، كونها زوجة سياسي وأيضاً صاحبة مهرجان «إهدنيات»، ومساهمة في العمل الخيري والاجتماعي. ورغم إطلالاتها القليلة على التلفزيون وخجلها في هذا المجال، وتغيّر نمط حياتها، بقيت حاضرة بتواضعها المعهود وزهدها في الحياة والعيش، وخرج اسمها أخيراً، وتحديداً العام الماضي، إبان الحديث عن فرصة وصول النائب سليمان فرنجية الى سدّة الرئاسة، ونيل عقيلته لقب «السيدة الأولى». وقتها ضجت المواقع الإلكترونية بالسيدة فرنجية، وانهالت حفلات الترحيب بها. ولعل عامل جاذبيتها وجمالها دفع بهؤلاء الى الاحتفاء بها.