كاتالونيا أعلنت... لم تعلن استقلالها! كلّ ما خرج به رئيس الحكومة الكاتالونية كارلس بوتشيمون، أمس، كان استقلالاً مؤجّلاً، يرتضي من ورائه مفاوضة الحكومة الإسبانية التي رفضت، حتى اللحظة، أي شكل من أشكال التفاوض، على اعتبار أن الاستفتاء الذي أُجري على انفصال الإقليم كان غير قانوني، وبالتالي فإن نتائجه غير مقبولة.بوتشيمون نطق العبارة نفسها، أي إنه يقبل «تفويض الشعب» لكي تصبح المنطقة «جمهورية مستقلة»، لكنه أرفقها بعبارة أخرى أخمدت آمال الانفصاليين الذين كانوا يترقّبون الإعلان بكل حماسة. اقترح تعليق التطبيق الفوري لإعلان الاستقلال، حتى يفسح في المجال أمام الحوار. وقال في خطاب ألقاه أمام برلمان كاتالونيا: «أقبل تفويض الشعب، لكي تصبح كاتالونيا جمهورية مستقلة»، لكنه طلب من البرلمان «تعليق إعلان الاستقلال من أجل بدء الحوار، في الأسابيع المقبلة».

وعلى الرغم من أن خطوة بوتشيمون انطوت على لهجة تصالحية مع مدريد، إلا أن الحكومة الإسبانية رفضت ما اعتبرته إعلان استقلال «ضمني» من قبل رئيس كاتالونيا، على اعتبار أنه ترك الباب مفتوحاً أمام الانفصال، من دون إعلانه بشكل صريح. وقال المتحدث باسم الحكومة الإسبانية: «من غير المقبول القيام بإعلان استقلال بشكل ضمني، من أجل تعليقه لاحقاً بطريقة واضحة». وكانت إسبانيا قد وجّهت، في وقت سابق أمس، تحذيراً شديد اللهجة لرئيس كاتالونيا لثنيه عن إعلان الاستقلال، فيما حذّر الأوروبيون من أنه سيتم استبعاد الإقليم تلقائياً من الاتحاد الأوروبي، في حال انفصل عن إسبانيا. وقال المتحدث باسم الحكومة الإسبانية، انييو منديز دي فيغو، للصحافيين: «أطلب من بوتشيمون ألا يقوم بأي خطوة لا يمكن الرجوع عنها، وألا يسلك أي طريق لا يمكن العودة عنه، وألا يدلي بأي إعلان أحادي الجانب للاستقلال».
ربّما شعرت إسبانيا ببعض الراحة نتيجة تأجيل إعلان الاستقلال، خصوصاً أنها كانت تحبس أنفاسها قبل جلسة البرلمان الكاتالوني، نظراً إلى أهمية الإقليم، منبع قوتها الاقتصادية، والذي أثار سعيه إلى الانفصال القلق بشأن الاستقرار في الاتحاد الأوروبي برمته. أما سكان كاتالونيا البالغ عددهم 7.5 ملايين نسمة، فلا شك أن جزءاً يسيراً منهم قد شعر براحة مماثلة أيضاً، ذلك أن الإقليم يشهد انقساماً كبيراً على مسألة استقلاله.
وفي السياق، حثّ قادة سياسيون في كل من كاتالونيا وإسبانيا وأوروبا بوتشيمون على التراجع، والتخفيف من وطأة أكبر اضطراب تعيشه البلاد منذ تحولها إلى الديموقراطية في سبعينيات القرن الماضي. ويأتي ذلك فيما تعهّد رئيس الحكومة الإسبانية ماريانو راخوي باستخدام كل سلطته القانونية لمنع الاستقلال، رافضاً حتى استبعاد وضع الإقليم الذي يتمتع بحكم ذاتي تحت سلطة مدريد المباشرة، في تحرك غير مسبوق يخشى كثيرون من أنه قد يثير اضطرابات.
كذلك، حذّرت رئيسة بلدية برشلونة ادا كولاو، التي تتمتع بشعبية واسعة، من أن إعلان الاستقلال بشكل أحادي قد يشكل خطراً على «التماسك الاجتماعي».
وتراقب دول الاتحاد الأوروبي التطورات عن كثب، وسط مخاوف من أن استقلال كاتالونيا قد يفاقم الضغوط على التكتل الذي لا يزال يحاول التعامل مع تداعيات قرار بريطانيا الانسحاب منه. وفي السياق، حثّ رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك الرئيس الكاتالوني على تجنّب اتخاذ أي قرار قد يجعل «الحوار مستحيلاً».
من جهته، أعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن ثقته بأن يتمّ حل الأزمة في كاتالونيا سلمياً، قائلاً إن «هناك محاولة للاستيلاء على السلطة من قبل الكاتالونيين»، ومشيراً في الوقت ذاته إلى أن الكاتالونيين تدفعهم «أنانية اقتصادية تخيفني».
وبعد محادثات في لوكسمبورغ مع وزراء من حزب الشعب الأوروبي، وهو تكتل أحزاب أوروبية يمينية ووسطية، قال وزير الاقتصاد الإسباني لويس دي غيدوس إن «الجميع دعم موقف الحكومة الإسبانية».

تخضع مؤسسات اقتصادية ومالية كثيرة في الإقليم لإدارة الحكومة الإسبانية


في غضون ذلك، بدأت تبعات الانفصال تظهر قبل حدوثه، وذلك لمجرّد إجراء الاستفتاء. وقد ألقت الأزمة بثقلها على الأعمال التجارية في أحد أغنى أقاليم رابع أكبر اقتصاد في منطقة اليورو. ونقلت عدة شركات مقارّها القانونية، لا موظفيها، من كاتالونيا إلى أجزاء أخرى في البلاد.
أما رغبة رئيس حكومة الإقليم في تأجيل الإعلان عن الاستقلال، فلا بدّ أنها نابعة من واقع أن كاتالونيا ستكون مضطرة إلى التفاوض مع مدريد، في كل الأحوال، من أجل إتمام استقلالها، ذلك أن الطريق سيكون طويلاً أمامها قبل ترسيخ نفسها مؤسساتياً. وفي هذا الإطار، سيكون الإقليم بحاجة إلى إنشاء مصرفه المركزي الخاص، وإدارته للنقل الجوي وقواته الدفاعية الخاصة التي تديرها مدريد حالياً، إضافة إلى الكهرباء وتوزيع الغاز، وغيرها من المسائل التي لا تزال ضمن إدارة الحكومة الإسبانية.
كذلك، فإن شبكات الهاتف تديرها الشركات الإسبانية والأجنبية الكبرى، فيما تملك الدولة الإسبانية 51 في المئة من مطاراتها، وسككها الحديدية، بينما يتم تشغيل الأسهم المتداولة من قبل الدولة الإسبانية أيضاً.
من جهة أخرى، فإن الدين الحكومي الكاتالوني قد وصل إلى ثلاثة أضعافه منذ عام 2009، وذلك كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وبالتالي، فإن تصنيف كاتالونيا الائتماني المنخفض يعني أنها لا يمكنها أن تقترض مباشرة من الأسواق المالية، لذا تعتمد على القروض من الدولة الإسبانية.
أما خارج الاتحاد الأوروبي، فسيكون على كاتالونيا أن تنشئ مراقبة الحدود وخدمة الجمارك الخاصة بها، ذلك أن حدودها مع إسبانيا وفرنسا ستصبح خارج إطار الاتحاد ومنطقة الـ«شينغن». وأيضاً فإن الكاتالونيين لن يخسروا جنسية الاتحاد الأوروبي فقط، بل الجنسية الإسبانية، وإذا ما قررت مدريد اللعب بقسوة، فسيجد الكاتالونيون أنفسهم مضطرين إلى التقدّم بتأشيرات ليس فقط لزيارة الاتحاد الأوروبي بل إسبانيا أيضاً.
علاوة على ما تقدّم، فإن كاتالونيا مستقلّة ستكون بحاجة إلى وضع نُظُم ومعايير التجارة الخاصة بها، والبدء بمفاوضات بشأن تجارتها الخاصة. وهي على عكس بريطانيا، ليست عضواً في منظمة التجارة العالمية، ما يشكل نقطة سلبية بالنسبة إليها.
بناءً على كلّ ما تقدّم، أعلنت إحدى أبرز الجمعيات التجارية الضاغطة في الإقليم، أن إعلاناً أحادي الجانب للاستقلال «سيغرق البلاد في موقف معقّد بشكل استثنائي، ولكن مع عواقب غير معروفة، خطيرة جداً».
(الأخبار، أ ف ب)




يمثّل رئيس كاتالونيا كارلس بوتشيمون (54 عاماً)، الصحافي السابق ذو الشعر البني الكثيف، وجه الحركة الاستقلالية الكاتالونية أمام العالم. وكان قد حصل على تأييد 47.7% من الأصوات في الانتخابات المحلية في عام 2015.
الرجل المتزوج من رومانية، والأب لفتاتين صغيرتين في السن، يقول إنه سيواجه احتمال توقيفه من دون خوف، في حال جرى الانفصال من جانب واحد وكانت تبعاته معاكسة لرغبة الإقليم. في سيرة نشرت في عام 2016، كتب صديقه الصحافي كارليس بورتا أن بوتشيمون رجل «صادق ومرن» وانفصالي منذ البداية، وهو «عنيد»، وهي صفة يمكن اعتبارها من الحسنات أو السيئات.
كذلك، يقول أحد خصومه إن بوتشيمون «لا يتمتع بخلفية ثقافية»، لكنّه منذ 16 عاماً «استقلاليّ حتى العظم»، ولديه «قناعات راديكالية».
(أ ف ب)