في شباط الماضي، حاول العميد السابق لكلية العلوم في الجامعة اللبنانية الدكتور حسن زين الدين اعتماد معايير عالمية في اختيار متعاقدين مع الكلية، ترتكز على المنشورات العلمية والخبرات الأكاديمية كشرط أساسي للاختيار.هذا الأمر دفعني، كما العديد من زملائي المنتشرين في بلاد الإغتراب، للخضوع لهذه المباراة، نحن الذين آثرنا البقاء خارج لبنان قسراً على أن نعود إلى وطن أقصى ما يمكننا أن ننال من خلال وجودنا فيه هو الحصول على فرصة التعاقد بالساعة، مسبوقة طبعاً بتقديم الولاء والطاعة لزعماء الطوائف والأحزاب.

ولأن النتائج جاءت عكس ما تشتهيه الأحزاب اللبنانية، فقد نجحت هذه الأحزاب في تعطيل مفاعيل نتائج العملية برمّتها، من خلال ودائع هذه الأحزاب في مجلس الكلية. في الوقت نفسه، كان هناك إعلان لكلية إدارة الأعمال والعلوم الاقتصادية صدر في نيسان 2016، يتضمن رغبة الكلية بالتعاقد مع أساتذة في اختصاصات عدة، ليس من بينها اختصاص علوم الحاسوب والشبكات. كانت العملية في كلية إدارة الأعمال تعتمد الطريقة الكلاسيكية اللبنانية في اختيار الأسماء. غير أنّ ما يثير الاستهجان في عمل هذه الكلية هو التعاقد مع اختصاصيين بعلوم الحاسوب، بحسب قرار اللجنة الفاحصة بتاريخ 28 شباط الماضي، على رغم عدم وجود أي إعلان مسبق للكلية عن حاجتها لمتعاقدين في هذا الاختصاص.
بالعودة إلى المباراة التي نظمتها كلية العلوم، كنت قد حصلت على المركز الأول، لأعلم لاحقاً أنّ الكلية عمدت إلى التعاقد مع زملاء احتلوا مراكز متأخرة في عملية التقييم، ومع آخرين لم يكونوا في الأساس مدرجين على اللوائح.
لا أشعر شخصياً بالمفاجأة لما جرى، ولكنني أحزن على عشرات الزملاء الذين آمنوا بالمباراة وجاؤوا من دول عدة للمثول أمام اللجنة الفاحصة. معظم هؤلاء يعملون حالياً في جامعات وشركات عالمية عريقة، غير أنهم ما زالوا يأملون بفرصة العمل في بلدهم، ولو تعاقداً بالساعة.
حصل أن أنهيت دراستي في فرنسا لأتقدم لوظيفة باحث في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي. يومها لم أكن فرنسياً، ولم أكن على اتصال مع أحد من المركز ولا من اللجنة. وحده ملفي العلمي ساعدني في الحصول على هذه الوظيفة، وأنا المقيم بإقامة مؤقتة كانت ستنتهي بعد أيام.
كل ما أحلم به للأجيال المقبلة هو اعتماد الحد الأدنى من الأخلاقيات الأكاديمية والتربوية في اختيار الكادر الأكاديمي في الجامعة اللبنانية، ليكونوا موظفين بدوام كامل وليس بالساعة.
بالكلام عن لعنة التعاقد، لماذا لا يتم اعتماد عملية تفرغ تتكرر كل عام كما يحصل في فرنسا وكل دول العالم، بدلاً من أن تحصل العملية مرة واحدة كل عقد أو عقدين من الزمن على أساس سياسي وحزبي بحت لا يمتّ للأدبيات الأكاديمية بأي صلة؟ ألا تدرون أنّ هذا التصرف الأرعن يدفع بالشباب اللبناني إلى ترك البلد كرهاً، وانتم الساعون اليوم خلفهم في بلاد الاغتراب طمعاً بعودتهم ظاهرياً وبأصواتهم باطنياً؟ هل تشعرون بالارتياح لإذلال الناس الذين يقضون سنوات عدة تعاقداً بالساعة، يكون خلالها أداؤهم في البحث العلمي ضعيفاً جداً ويقتصر عملهم على أداء محاضراتهم قبل أن ينتقلوا مهرولين وبشكل يومي بين كليات عدة لتأمين نصاب تعليمي لا يساعدهم حتى في بناء عائلة؟
هل تعلمون يا سادة أن أفضل سنوات أداء البحث العلمي تكون في العقد الأول الذي يلي الحصول على الدكتوراه؟ هل تعلمون أن نظراءنا في جامعات العالم الذين يتمتعون بالاستقرار الوظيفي يستحصلون على مشاريع علمية بملايين الدولارات من جهات مانحة أوروبية وشرق أوسطية تسهم بشكل فعال في الارتقاء بالجامعة إلى مصاف الجامعات العريقة، بدلاً من أن تكون في مركز متأخر جداً بحسب الترتيب العالمي للجامعات. هل تعلمون أن الاستثمار في التعليم العالي والبحث العلمي هو من استراتيجيات النهوض بالمجتمعات، ولكم في الكيان الغاصب أفضل مثال، حيث أن نسبة كبيرة من الناتج المحلي يقوم في الأساس على ما تم التوصل إليه من نتائج في البحث العلمي!
* باحث في حماية الشبكات، المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي