على الرغم من انخراطه في العمل السياسي وهو في الثالثة عشرة من عمره، كان جلال طالباني رمزاً للعقل والهدوء الكردي الذي كان كافياً لانتخابه رئيساً للجمهورية العراقية عام ٢٠٠٥، بقبول كل الأطراف وتأييدهم.طالباني الذي انتُخب عضواً للجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو في الثامنة عشرة من عمره، لم يبتعد من محيطه العربي حتى عندما كان منخرطاً في نشاطه السياسي السري عندما كان طالباً في كلية الحقوق في بغداد (1953 ــ 1958) حيث عمل صحفياً بعد ذلك.

علّمته هذه الكلية ومهنة الصحافة أن يكون أكثر موضوعية من رفاقه الأكراد الأكثر تعنّتاً في قوميتهم، ليس فقط بسبب الاختلاف معهم في التوجه السياسي، بل بسبب سلوكه الشخصي الهادئ والموضوعي. «مام (العمّ) جلال» كان متشجعاً دائماً للحوار والنقاش مع كل ضيوفه والمقربين منه. اختلف مع القيادات الكردية في مختلف الأوقات، حتى في موضوع الحكم الذاتي للأكراد الذي اعترف به الرئيس الراحل صدام حسين في آذار ١٩٧١، حيث غادر العراق إلى بيروت ممثلاً عن الحركة الكردية. كان له رفاق كثر في العاصمة اللبنانية. علّمهم الكثير عن هذه «الحركة» وتعلّم منهم عن الإخاء الكردي ـ العربي ومشاكل الأمة العربية التي كان متحمساً لها أكثر من شخصيات سياسية عربية.

غياب طالباني سيظهر المزيد من «العقل الكردي الطائش»


من بيروت انتقل إلى دمشق واشترى فيها بيته الأول حيث احتضنته هذه العاصمة في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد. وكانت له صداقة خاصة معه لم ينسَها، وبقيت صورته الأولى مع الأسد معلّقة في مكتبه في السليمانية. كانت أجواء دمشق كافية لتشجعه مع مجموعة من رفاقه الأكراد على تأسيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني عام 1975، وانتُخب أميناً عاماً لهذا الحزب الذي بقي زعيماً له حتى وفاته.
كانت دمشق من أولى المحطات العربية التي زارها طالباني بعد انتخابه رئيساً للجمهورية العراقية وفاءً منه للدعم الذي قدّمته سوريا له وللحركة الكردية. وربما كان الوحيد من الرؤساء الذين راهنوا على بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة بعد «الربيع العربي». وهذا ما قاله للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بداية عام ٢٠١٢، طالباً منه الكفّ عن التدخّل في سوريا لرؤيته الموضوعية لخطر التيارات الإسلامية المتطرفة.
في العراق، لعب دوراً أساسياً في تحقيق المصالحة الوطنية بين كل الأطراف عندما كان رئيساً للجمهورية، وساهم في حلّ الكثير من مشاكلها بعد أن رفض أن يكون أداة في تمزيق وحدة البلاد، خلافاً لمسعود البرزاني، منافسه السياسي الدائم.
رفض طالباني إعطاء أيّ دور سياسي لولديه قباد وبافل، قائلاً: إنّ العراق والاتحاد الوطني يكفيه طالباني واحد. واستغل البرزاني مرض «غريمه» بعد أن أصيب بجلطة في الدماغ في ١٧ كانون الأول ٢٠١٢، ليقنع ابنه قباد بأن يكون وزيراً في حكومة نجيرفان البرزاني. فعمّ الأخير، مسعود، نجح في استمالة العديد من قيادات «الاتحاد الوطني الكردستاني» الذي يعاني من مشاكل داخلية كبيرة تهدد بتمزيق وحدة الحزب، وربما نهايته رويداً رويداً. فهو أصيب بالشلل مع مرض زعيمه في كانون الثاني ٢٠١٢، والعلاج في ألمانيا سمح له بالعيش حتى هذا اليوم، لكنه لم يشفه حتى «ينقذ» بدوره العراق من ورطته الحالية، ومغامرات البرزاني التي كان دائماً ضدها.
غياب طالباني سيظهر المزيد من «العقل الكردي الطائش»، والساحة تفتقر إلى شخصية تمنع البرزاني من مغامراته (التي يشجعه عليها كثيرون من أمثال برنارد هنري ليفي بطل سناريو الربيع العربي الذي اعتبر طالباني أنه «جهنم» سيطاول الأكراد أيضاً). كان الرجل مع «الأحلام التاريخية» ومتشجعاً لها أكثر من أي طرف آخر ولكن بجوانبها الإنسانية... حتى يعيش العرب والكرد والفرس والأتراك معاً.