يطفئ إيهاب سيجارته: «شغلتين ما قدرت إتركن: الدخان والسبق». أفراد عائلة الرجل الخمسيني اعتادوا غيابه نهار الأحد قبل أن يعود إليهم بصوت مبحوح. يقول: «بالميدان ما في شي أسرع من الأحصنة إلا دقّات قلوبنا وقت السبق، وخاصة إذا كنّا مكبّرين الرهان». هو واحد من كثيرين يعتبرون الميدان ملاذاً للتسلية والهروب من مشاكل الحياة، رغم أن الميدان نفسه سبب أساسي في مشاكلهم.
الميدان أشبه ما يكون بقرية هادئة وسط «عالم من الباطون». لكنه في يوم السباق ينقلب رأساً على عقب. قبل نحو ساعة من انطلاقه، يبدأ «لعيبة السبق» بالتوافد الى شباك التذاكر. يبتاعون الصحف الخاصة بالسباق من الموزعين قبالة البوابة الأساسية، قبل أن يودعوا هواتفهم لدى عناصر قوى الأمن لمنع التواصل مع مكاتب المراهنات غير الشرعية. قليلون من يأتون للاستمتاع بالسباق، فيما الغالبية تأتي للمراهنة. «مش خجلانين. هذه أموالنا ونحن أحرار بالتصرف فيها كما نريد»، يقول أحدهم.

قبل دقائق من انطلاق السباق، يندفع المراهنون نحو أكشاك المراهنة خلف المدرجات. المبلغ الأدنى للرهان 5000 ليرة، وكلما زاد عدد المراهنين على حصان معين انخفضت الجائزة في حال فوزه، والعكس صحيح. لذلك يحتج المراهنون على بعض الأشواط التي تكون نتيجتها شبه محسومة بسبب وضع حصانين قويين في مجموعة أضعف منهما، إذ تراهن غالبية «اللعيبة» عليهما ليصبح «الربح» شبه معدوم. ففي بعض الأحيان من راهن بـ 10000 ليرة على الحصان الفائز تكون جائزته 11 ألف ليرة فقط!
في المدرج، العنصر الذكوري طاغٍ. الغالبية العظمى فوق سن الخمسين ممن يملكون «خبرة واسعة» في عالم «السبق» وتفاصيله التقنية. ينطلق السباق فينهض الجميع من كراسيهم ويبدأ الصراخ بأسماء الخيالة أو بأسماء الأحصنة: «زي الهوا»، «طيران»، «بساط الريح»، «إبن بطوطة» وغيرها...
مع اقتراب السباق من نهايته تنتفخ الأوداج وتكاد العروق تنفجر ويبلغ الأدرينالين أعلى مستوياته. ينتهي السباق ولا ينتهي الصخب: الفائزون يحتفلون بشكل هستيري، فيما الخاسرون يطلقون الشتائم للحصان وخياله. حول شاشة تلفزيونية خلف المدرج، يتجمّع كثيرون، وخصوصاً من الخاسرين، لمشاهدة السباق المصوّر وتحليل تفاصيله. ولا يخلو الأمر من انتقادات لإدارة الميدان، لأن بعض الأشواط تتنافس فيها أحصنة تعود لمالك واحد وتخضع للتدريب من قبل المضمر ذاته، ما يؤدي إلى غياب المنافسة وجعل الأشواط عرضة للتلاعب، الأمر الذي ينفيه المدير الإداري للميدان روجيه عازوري، مؤكداً أن «النزاهة والاستقامة تحكمان عمل الميدان»!

يحنّ رفعت مبارك، وهو من المضمرين المخضرمين، إلى «الأيام الذهبية». إذ «كان الميدان معلماً يقصده آلاف الزوار والسياح، وكانت مستويات السباقات عالية.

«بعد خسائري
أقسمت أنني لن أحضر السباق مجدداً، لكنني كنت أول الحاضرين
في اليوم التالي»!
الأوضاع اليوم في تراجع مستمر». ويقول: «كان المضمرون يخضعون لدورات تدريبية مكثفة، فيما كان يشترط على الخيال أن يفوز بخمسة سباقات في الفئات العمرية قبل السماح له بالمشاركة في السباق الرسمي. أما اليوم فالعشوائية والاستنسابية هما اللتان تحكمان».
رغم تجاوزه الثانية والثمانين، يحرص موسى الحكيم على الحضور الى الميدان كل أسبوع. لا يزال يذكر السباق الأول الذي شاهده برفقة والده قبل 70 سنة، «ومن وقتها علقت». يحنّ الى «أيام العز عندما كانت المدرجات تغص بالجمهور وكان السباق يستقطب السياح». يروي أنه وصل يوماً متاخراً «فلم أستطع الرهان بعدما بدأ السباق. كان أحدهم الى جانبي قد راهن على أحد الأحصنة، فعرض عليّ أن أشتري بطاقته بليرة واحدة بعدما بدا أن الحصان مقصّر. قبلت، وكانت المفاجأة أن الحصان شدّ حالو وفاز بالسباق فربحت 3000 ليرة يوم كانت الليرة بتحكي».
الحظ الذي حالف الحكيم افتقده فؤاد الزين، وهو من قدامى روّاد الميدان، «في سباق لن أنساه أبداً. يومها راهنت في خمسة أشواط متتالية، وفي كل مرة كان الحصان يحل ثانياً بفارق بسيط. في الشوط السادس راهنت بمبلغ أكبر، وسارت الأمور على ما يرام. إذ بقي الحصان متقدماً حتى الأمتار الأخيرة، قبل أن يسقط أرضاً ويخسر. يومها، أقسمت أنني لن أحضر السباق مجدداً. لكنني كنت أول واحد في اليوم التالي»!








لعنة التمديد تصيب الميدان

عام 1887، وضعت الدولة العثمانية حرج الصنوبر في بيروت تحت تصرف بلدية بيروت ليكون متنزهاً عاماً. لاحقاً، وتحديداً عام 1916، منحت البلدية ألفرد سرسق امتيازاً لإقامة متنزه يضم صالات سينما وحدائق وميداناً لسباق الخيل. بعد 50 عاماً، استردت البلدية الميدان الذي أنشأه سرسق، وتعاقدت سنة 1969 مع «جمعية حماية وتحسين الجواد العربي» لإدارته واستثماره لمدة 15 سنة. البلديات التي تعاقبت على العاصمة مدّدت العقد مرات عدة، ما جعل الجمعية الجهة المسؤولة عن إدارة الميدان منذ ذلك اليوم، وحتى يومنا هذا.
يمتد ميدان سباق بيروت الواقع في منطقة المتحف على مساحة تقدر بحوالى 220 ألف متر مربع، ويؤوي مئات الخيول التي تتولّى «جمعية حماية وتحسين الجواد العربي» رعايتها وتربيتها. يقرّ المدير الإداري للميدان روجيه عازوري بأن الجمعية تشترط لاستقبال أي حصان أن يكون مالكه «مرتاحاً مادياً لأن الحصان الواحد يكلف صاحبه شهرياً بين 750 و1000 دولار بين طعام وطبابة». كما يجب أن يملك الحصان «جواز سفر» خاصاً يتضمن معلومات عن عمره ونوعه وأصله. ويوضح أن الجمعية تستقبل الأحصنة في سن مبكّرة لتخضع لتدريب مكثف، ولدى بلوغها سن الثالثة يمكنها المشاركة في السباق الذي يُنظّم كل يوم أحد (باستثناء شهرَي تموز وآب حيث يجري السباق الخميس).
يتألف السباق الذي يطلق عليه اسم «الحفلة» من سبعة أشواط تتنافس في كل منها 5 أحصنة. ويؤكد عازوري أن السباق يقوم على ثلاثة عناصر يتكامل بعضها مع بعض وهي: الخيول التي يجب أن تكون بطبيعة الحال قوية ومدربة؛ الخيالة أو الفرسان الذين يعرفون داخل الميدان باسم الجوكي والذين يجب أن يتراوح وزن كل منهم بين 48 و52 كيلوغراماً، ما يفرض عليهم اتباع نظام غذائي قاس؛ والمضمرون الذين يدربون الخيل والخيالة.






صحف السبق: تصيب حيناً وتخيب أحياناً

«الجواد»، «اللوتري»، «أخبار المضمار»... وغيرها أسماء لصحف خاصة بسباق الخيل. سعر العدد المؤلف من أوراق قليلة ألف ليرة، ويشرف على كل منها خبراء في مجال السبق. وهي تعرض تفاصيل السباق المزمع إقامته كأسماء الخيول والمضمرين المشاركين، والأحصنة المرجح فوزها بعد مراقبتها خلال التدريبات وقياس سرعتها. ويعتمد كثير من المراهنين على هذه «التعليمات» للرهان على الأحصنة، رغم أنها تصيب حيناً وتخيب أحياناً.






«التعليمة» تخرب بيوت «اللعيبة»

معرفة الحصان الذي سيفوز في السباق أمر يتمناه كل «اللعيبة»، لذلك لا يوفرون وسيلة لذلك، ومن بينها «التعليمة»، وهي عبارة عن تسريبات من داخل الميدان توحي بهوية الحصان الذي سيفوز. ويوضح كرم، وهو أحد «المخضرمين» في شؤون الميدان، ان بعض المضمرين أو الجوكية يسرّبون لبعض «اللعيبة» أسماء أحصنة يتوقع فوزها، وسرعان ما تصبح الأسماء المسربة متداولة على نطاق واسع بين المراهنين. ويضيف أن «التعليمة» هي «عملية نصب خربت بيوت كثيرين». إذ أن أغلب التسريبات يتبين عدم صحتها فتضيع أموال المراهنين. يقول كرم: «ليل السبت نحسب كم سنربح معتمدين على أن في حوزتنا معلومات صحيحة، وليل الاحد نبدأ بحساب خسارتنا»، جازماً بأن التسريبات تتم «بشكل مقصود من بعض العاملين داخل الميدان لدفع اللعيبة الى المراهنة على أحصنة محددة ما يعود عليهم بمكاسب مادية، على خلاف المراهنين الذين يتكبدون خسائر كبيرة»!