لم تكن العجرفة التي أطل بها زياد دويري في مؤتمره الصحافي بمعزل عن مشروعه السياسي وعن تطبيعه مع إسرائيل، فدويري ينظر إلى العربي من منظور الرجل الأبيض، ويحتقر العربي كما يحتقره الرجل الأبيض.
يقول فرانتز فانون (المفكر الكاريبي المارتنيكي الذي فتح مجال دراسات الاستعمار، وأصبح عضواً في المقاومة الجزائرية حين وجد العربي الثائر أقرب إليه من الفرنسي المستعمِر) بأن المثقف المارتنيكي حين يذهب للدراسة في فرنسا يعود وفي عينيه نظرة استعلاء على بني قومه بعدما تعلم أن يراهم من منظار مستعمرهم الفرنسي الأبيض، فلا غرو إذن أن يلقي دويري المتماهي مع الرجل الأبيض الدروس المتعالية على شعبه أو أن يزجر أمه. والمفارقة أنه نسب إلى أمه هذه مراراً أنها أرضعته حليب فلسطين بعدما زجرها أمام الجمهور، فكأنه يوضح من دون أن يدري أنّ احتقاره لأمه هو احتقار لعروبته التي تمثلها أمه، ولقضاياها التي أرضعته أمه إياها. بل إن عجرفة دويري وتعاليه وقلة أدبه مع أمه ومع جمهوره تشي بكره للذات، فدويري الأبيض الذي ولد فنياً وثقافياً في أميركا يزدري زياد العربي الذي ولدته أمه التي زجرها، وقد ينتمي رغماً عنه لشعبه الذي تعالى عليه.
بدا تماهي زياد دويري مع الرجل الأبيض وازدراؤه للعرب مبكراً في مسيرته الفنية، وتحديداً في عام 2004 حين أخرج فيلمه الفرنسي «ليلا قالت كذا» (Lila dit ça ) والمأخوذ عن رواية فرنسية مجهولة المؤلف تحمل العنوان ذاته. ولا ندري إن كان صاحب الرواية فرنسياً عنصرياً ضد العرب أم عربياً كارهاً لقومه مثل دويري.
ليلا الشقراء التي لها أن تقول بحسب عنوان الفيلم هي فتاة فرنسية تصل إلى ضاحية عربية في مارسيليا، فيقع المراهق العربي شيمو في غرامها ويقع معه صديقه العربي مولود. فمَن مِن العرب يقاوم سحر الفتاة البيضاء التي أتت بالأنوار الفرنسية إلى حارة العرب؟ يعلمنا فرانتز فانون كيف يملي الاستعمار على الرجل المستعمَر أن يرغب في المرأة البيضاء وأن يطمح إليها وإلى نيل رضاها، فإن رضيت به فكأنها تمنحه البياض وحضارته، أو كأنها تعترف به إنساناً، فيصبح مثله مثل الرجل الأبيض. وكما المارتينيكي المستعمَر في تحليل فانون، تطلَّع شيمو ومولود (ومن ورائهما دويري وكاتب الرواية المجهول) إلى جسد ليلا وحضارتها الأبيضين. ولولا أن الفيلم أظهر العربي في مواجهة الفتاة الفرنسية مكبوتاً ومريضاً وعنيفاً، لهنأناه على إظهاره للعقدة الاستعمارية التي تدفع المستعمَر إلى أن يرغب في مستعمرِه (أو مستعمِرَته).

لا يخرج دويري ولا مؤلف
الرواية المجهول عن جوقة العنصريين البيض الذين لا يرون في الهجرة العربية سوى محاولة لاغتصاب نساء أوروبا

لا تلبث ليلا أن تحاول إغواء الفتى العربي المكبوت بسرد حكايات جنسية فاحشة عن ماضيها، وطوال الفيلم يتردد شيمو في تلبية غواية الفتاة. من البداية، نجد المفارقة النمطية بين العربي المحافظ إلى حد التعقيد والجهل والعجز النفسي، والفرنسية المتحررة، وهي صورة اجترها العنصريون البيض ومن لف لفهم من المثقفين العرب حتى احترنا كيف تكاثر العرب قبل الاستعمار. أما ليلا، فهي لا تثير فقط خيالات المراهق العربي الجنسية ولكنها تدفعه أيضاً لأن يكتب (أي إنها كما الفتاة البيضاء في تحليل فانون، لا تغوي المستعمَر فقط بل تُؤنسنه). وعلى عكس الفرنسية التي تدفع شيمو للكتابة، نرى رفاقه العرب طوال الفيلم وهم يثبطونه ويسخرون منه إن كتب، فالغرب ممثلاً في ليلا هو مصدر الإلهام، هو التحرر الجنسي والفكري، بينما العروبة هي موطن الكبت والعُقَد (وللأمانة لا يحصر الفيلم المحافظة والعقد الأخلاقية في العربي، فعقد العربي توازيها عقد خالة ليلا الكاثوليكية، على طريقة العنصريين الفرنسيين ممن تستروا بأثواب اليسار والذين يوجهون نقداً وسخرية طفيفين إلى بعض الجماعات الفرنسية وبالذات التي تشكل هدفاً سهلاً للمزاج العلماني الفرنسي ثم يصبون جام عنصريتهم على العرب وما شارلي إبدو منا ببعيد). إلا أنّ عقد العربي وكبته يتعديان المحافظة إلى العنف والجرم، ففي نهاية الفيلم يقتحم أصدقاء شيمو بيت ليلا ويغتصبونها. العربي في هذا الفيلم يعجز عن التعبير عن رغباته سلماً كما هو الحال مع شيمو، وإن عبر عنها، عبر عنها عنفاً وغصباً كما هو الحال مع أصدقاء شيمو. وفي هذا لا يخرج دويري ولا مؤلف الرواية المجهول عن جوقة العنصريين البيض الذين لا يرون في الهجرة العربية سوى محاولة لاغتصاب نساء أوروبا (وقد تذرع الغرب لرفض احتواء المستعمَرين بحجة أن رجالهم سيغتصبون بناته من أول ميراندا ابنة بروسبيرو في مسرحية «العاصفة» لشكسبير إلى فتيات كولونيا اللواتي تعرضن للاغتصاب العربي عشية عام 2016 بحسب اختلاقات العنصريين الألمان).
إلا أن المفارقة، أو «الصدمة» في نهاية الفيلم، هي اكتشاف أبطال الفيلم أن ليلا كانت طوال هذا الوقت عذراء. كأنما احتاج كاتب الرواية وصانع الفيلم إلى عذرية الفتاة ليجعلا من الاغتصاب جريمة أو كأن جريمة الاغتصاب أقل وقعاً إن لم تكن المغتصبة عذراء. يفوت زياد أنّه بذلك يقدم للاغتصاب عذراً لا انتقاداً، إلا أنّ ذلك يبدو أمراً هامشياً عند زياد، فالمهم أن العربي لم يفهم، العربي يسقط تحيزاته وأحكامه الأخلاقية المسبقة وعنفه الجنسي على جسد المرأة البيضاء، وعذرية الفتاة إذن مهمة لأنها توضح كم هذا العربي جاهل ومحمل بالأحكام الأخلاقية المسبقة.
ربما أراد دويري، بعدما صور العربي مُزدرى، أن يصور نفسه وهو يزدري العربي عَلَّ الرجل الأبيض يقبله، فساقه القدر ــــ أو بالأحرى ساقه منتج أميركي بحسب ما قاله دويري لجريدة «لو فيغارو» - إلى رواية كتبها جزائري فرانكوفوني عن فلسطيني متماه مع المجتمع الإسرائيلي يدعى أمين يعمل جراحاً في مستشفى إسرائيلي ويتقبله المجتمع الإسرائيلي ويمنحه الجوائز. ثم يكتشف فجأة أن زوجته سهام الفلسطينية قامت بعملية استشهادية، فيمضي بقية الرواية في محاولة استكشاف «كيف تمكنوا من غسل مخها لتفعل ما فعلت» (وفي النهاية، بحسب تعليق زياد دويري لموقع «تايمز أوف إسرايل»: «يفهم لماذا فعلت ما فعلت دون أن يوافقها عليه» وهو موقف متعال خليق بالليبراليين البيض).
لم يخف دويري أن فيلمه كان يرمي للحصول على إعجاب الرجل الأبيض، فيصف الفيلم في المقابلة الإسرائيلية ذاتها بـ «فرصة لنظهر أننا لا نصدر الحمص والفلافل فقط» (وهي نفس المقابلة التي صرح فيها بأنه كان يمقت إسرائيل من قبل ولكنه تغير بفضل تجربة تصوير الفيلم فيها). وقد وجد في هذا الفيلم فرصة ليقدم نفسه منفصلاً عن بني قومه، مُديناً لهم ولتعصبهم، متفتحاً ومتحضراً مثل الرجل الأبيض، فيقول لجريدة «لو فيغارو»: «لقد اكتفيت من ذلك الإرهاب الفكري الذي يريد أن يفرض عليّ أن أصور الإسرائيليين على أنهم دارث فيدر والفلسطينيين كما لو كانوا دببة كارتونية أليفة. ليس هنالك شرير في ناحية وضحية في الناحية الأخرى» ثم يشيد بالإسرائيليين ويتمنى أن يحذو العرب حذوهم: «يحتاج العالم العربي إلى نقد ذاته [وقد احتفى كاتب «لو فيغارو» بهذه الجملة وجعلها عنواناً للمقال]. أما النقد الأشرس للسياسة الإسرائيلية فنسمعه من إسرائيل ذاتها». ثم بعد الإدانة، ينظر نظرة تقزز لقومه من على منصة «لو فيغارو» البيضاء، فيقول بعد أن يعدد الجوائز الدولية التي حصل عليها فيلمه «وكيف رد العرب؟ بمقاطعتي!»

لم يخف أن فيلمه يرمي
للحصول على إعجاب الرجل
الأبيض، فيصفه في المقابلة الإسرائيلية بـ«فرصة لنظهر أننا لا نصدر الحمص والفلافل فقط»


ضالة زياد دويري إذن أن يعزل نفسه عن العرب، يتحدث عنهم بضمير الغائب كما لو لم يكن واحداً منهم، وكلما ابتعد عنهم كلما تماهى أكثر مع الرجل الأبيض، وقد وجد ضالته تلك في «الصدمة». طوال الفيلم، نرى معاناة الإسرائيليين رأي العين (فنرى مثلاً صور القتلى والجرحى الإسرائيليين ونرى ضحكة الطفلة الإسرائيلية قبل أن تنسفها الإرهابية الفلسطينية). أما مأساة الفلسطينيين، فلا نراها (باستثناء مشهد وحيد يتعامل فيه جندي إسرائيلي مع المواطنين بشيء من الخشونة على حاجز عسكري) إلا من خلال خطب رنانة وتعميمات فارغة يسمعها من الفلسطينيين في نابلس – أولها خطبة مسجلة لأحد الشيوخ الإسلاميين (تثير امتعاض بطلنا العلماني المتحضر، طبعاً) عن عدم أحقية غير المسلمين في حجر واحد من المسجد الأقصى كأن الأمر نزاع طائفي على حجارة مسجد. وحتى مجزرة جنين لا يقدمها إلا من خلال تعميمات لا تحصي حتى عدد القتلى (بينما يصر على تذكيرنا مراراً بعدد القتلى والجرحى الإسرائيليين وتلك حيلة استعمارية قديمة تجعل من البيض أناساً نتعاطف معهم ونحزن عليهم، أما غيرهم فتحولهم إلى كتل بشرية لا عد لها ولا تعاطف معها ولا حزن عليها). وطوال الفيلم، نرى حاجزاً ما في تعامل أمين مع العرب الآخرين، ينظر إليهم من علو بتعاطف أو بازدراء، يخشاهم أو يخشونه، يعاملهم بفظاظة ويعاملونه بعنف (بل إن مواجهة بين أمين والفلسطينيين الذين يدينون تماهيه مع دولة الاحتلال تذكرنا بالضبط بمؤتمر زياد دويري الصحافي ويخاطب أمين فيها مواطنيه بنفس عجرفة زياد كأن الأخير تماهى مع بطل فيلمه في طريقه للتماهي مع الرجل الأبيض). ويبدون أمامه دائماً كلغز مستغلق يحاول أن يفهمه وهو أمر متناقض إلى حد الإضحاك، فالمفترض أن أمين فلسطيني من نابلس، فلماذا يحتاج لأن يحاول أن يفهم أهل نابلس؟
وتلك هي النكتة الأكثر عبثية في الفيلم: أن أمين الذي يحمل جواز سفر إسرائيلياً ليس ممن يعرفون بفلسطينيي الـ 48 الذين فشلت إسرائيل في ترحيلهم، فمنحتهم جنسيتها اضطراراً ورفعاً للعتب، وإنما فلسطيني من الضفة ولد وعاش في نابلس قبل أن ينتقل إلى «إسرائيل» ويحصل على جواز سفرها كأن إسرائيل تمنح جواز سفرها هكذا للفلسطينيين. يريد دويري ومن ورائه كاتب الرواية أن يقنعانا أنّ أمين حصل على الجنسية الإسرائيلية نتيجة كفاءته كجراح (كأنه على الفلسطينيين أن يجتهدوا ويصبحوا مهنيين بارعين فتقبلهم إسرائيل القائمة على نظام الكفاءات لا على العنصرية، أو كأن الرازخين تحت الاحتلال يدفعون ثمن كسلهم وهي أكذوبة استعمارية قديمة - أو كأن الفلسطينيين لا يذهبون للعمل في تل أبيب والإقامة فيها وأخذ جنسيتها لحساسية في أنفسهم تجاه إسرائيل وليس لأن إسرائيل لديها ترسانة من القوانين والممارسات التي تمنع ذلك التنقل والاختلاط).
وفي مشهد من أكثر مشاهد الفيلم عبثية تمن صديقة إسرائيلية على أمين بأنهم أعطوه جنسيتهم، فيقول أعطيتموني إياها لأني أستحقها. تلك أماني وهلاوس زياد دويري (ومن ورائه كاتب الرواية وكل المتماهين مع الرجل الأبيض وعملاء الاستعمار)، أن يجتهدوا ويتماهوا فيقبل الرجل الأبيض بهم.
ينسى دويري أن إسرائيل لا تمنح جنسيتها للفلسطينيين هكذا ولا تقبل من الوافدين إلا من كان يهودياً (وحتى هؤلاء يلقون مشكلة في التماهي إن لم يكونوا أشكيناز)، وينسى أن الرجل الأسود (ومثله العربي) كما يعلمنا فانون، يظل آخراً بالنسبة للأبيض مهما اجتهد أو تماهى (وربما كان الغضب والعجرفة في نبرة زياد في مؤتمره الصحافي ردة فعل غير واعية على أزمة عدم قبوله كأبيض بالرغم مما قدم)، وينسى أننا نحن العرب على هزائمنا وخيباتنا، ما زال فينا نفس يأبى أن ينزجر إذا زجره الرجل الأبيض (سافراً أو متخفياً وراء المتماهين العرب)، ويأبى أن يعترف بإسرائيل.
* كاتب وباحث مصري مرشح لنيل درجة الدكتوراه في «جامعة كولومبيا»