ضمن سلسلة «نصوص انتروبولوجية»، صدر كتاب «السلطة والعنف والجنس» (دار نقوش) لأستاذ علم النفس الإجتماعي عبد الرزاق عمار. الكتاب يشكل دراسة تفكيكية في علاقة السلطة بالهوس الجنسي وما يتخللها من عنف. يحملنا الأكاديمي التونسي بين ثنايا الفلسفة والتجارب السياسية والتاريخ باحثاً عن تجليات العلاقة بين مكونات منظومة تتشابك فيها العناصر ويتداخل الجنس والعنف والسلطة. يفسر عبد الرزاق عمار دواعي تأليفه لهذا الكتاب، قائلاً «أردنا تقصي واقعنا في ضوء ارتباط حاضرنا بماضينا، وكان منطلقنا ان العقلية العربية الاسلامية لم تتغير كثيراً في ما يخص علاقة السلطة بالعنف والجنس، وأنّ التفكير السياسي العربي المرتبط بهذا الثالوث لم يتغير هو الآخر كثيراً، اذ ما زال يقوم على مبدأ «المعتقد والقبيلة والغنيمة»».
وللتأكيد على فرضياته المقترحة، يغوص عمار في ثنايا التاريخ العربي الإسلامي، وخصوصاً العصرين الأموي والعباسي، وكذلك زمن خلافة عثمان بن عفان والبويهيين والاتراك، وصراع المذاهب وما رافقه من استبداد وقمع للحريات وللفكر الآخر. الكتاب رحلة موجعة في ثنايا الاستبداد العربي الذي كان غالباً مرتبطاً بالهوس بالعنف من خلال القتل والسحل والتفنن في تصفية الخصوم والتفنن في التمتع بالجواري الغلمان في منحى من العنف والتسلط. يذهب عبد الرزاق عمار إلى أن السلطة بما هي عنف في وجه من وجوهها، والجنس، لهما مصدر واحد هو «الليبيدو» (libido) أي ما يسمى «طاقة الحياة». ويستشهد في هذا بقول جان بيار فريدمان «إنهما شكلان من نزوات تكاد لا تقهر، ويفقد مَن يطغيان عليه رشده»، وهو قول يلخص ويفسر مسار عدد من التجارب السياسية العربية قديماً وحديثاً ويستشهد بأمراء عباسيين وأمراء أغالبة (حكموا تونس في القرن الثاني للهجرة) ومن العصر الحديث بالقذافي.

يستشهد بدراسة أميركية تثبت الفوارق بين الرجل والمرأة في العلاقة بالجنس

وفق هذا الكتاب، فالعلاقة بين «الايروس» (Eros ــ النزوة الجنسية) والسلطة وثيقة ومتنافرة، فهما من طبيعة واحدة هي «التأكيد العنيد للذات»، ولهما غاية واحدة: المتعة واللذة والهيمنة على الآخر. ويقول عبد الرزاق إنّ «للسلطة شحنة ليبيدية يفسرها بعدها الشبقي. وهي مصدر اثارة جنسية حادة وسلاح فتنة»، لكنّ السلطة احياناً لا تكون اختياراً، فهي مرتبطة بالهرمونات، اذ إنّ نظرية التناذر الذكري ألفا Alpha male syndrome تؤكد بحسب الباحث أنّ القادة السياسيين هم ضحايا الهرمونات التي يفرزها النجاح السياسي، ويرى أن كل اتصال جنسي يحمل جانباً من العدوانية، فيما معظم الأمراض النفسية الجنسية مصدرها السلطة.
عبد الرزاق عمار الذي درّس أجيالاً في علمي النفس والاجتماع في «كلية العلوم الانسانية والاجتماعية» في تونس، قسّم كتابه منهجياً الى تسعة أبواب و48 فصلاً. على مدى هذه الأبواب التسعة، يتصفّح كتب التاريخ ويقدم نماذج في العنف المرتبط بالهوس بالسلطة والجنس على ضوء نظريات التحليل النفسي والعلوم السياسية. كذلك، يستشهد بدراسة أميركية أجرتها «جامعة جون هوبكينز» في السنوات الأخيرة تثبت الفوارق بين الرجل والمرأة في العلاقة بالجنس. كشفت الدراسة أنّ النساء المهيمنات لا يجعلن من العلاقة الجنسية أولوية عكس الرجال الذين يستغلون غالباً مواقعهم لتحقيق حياة جنسية نهمة. وقد اعتمدت هذه الدراسة على استبيان آراء آلاف النساء في خمسة بلدان أفريقية (غانا، مالي، رواندا، أوغندا، زامبيا)، وظهر أن العلاقات الجنسية عند النساء المهيمنات أقل مئة مرة من العلاقة الجنسية عند النساء العاديات.
ويتوقف عبد الرزاق عمار عند العلاقة بين الجنس والعدوانية، إذ لا يمكن فهم العدوانية الا في علاقتها بالجنسانية، مستشهداً بفرويد الذي يقول إنّ «جنسانية معظم الناس تشتمل على العدوانية، وهو الميل الى الهجوم على الأشياء. وقد تكمن دلالة العدوانية البيولوجية في ضرورة التغلب على مقاومة الموضوع الجنسي بطريقة مغايرة بدل مغازلته». يتضمّن «السلطة والعنف والجنس» نماذج من التاريخ العربي الاسلامي التي يبرز فيها التداخل الواضح بين الجنس والعنف والسلطة. يرى المؤلف أنّ الاستبداد المالي في العهود الإسلامية مثل العهد الأغلبي في تونس، أو الأندلسي أو العثماني وغيرها من العهود الاسلامية هو شكل من أشكال العنف، اذ تم اعتماد الجباية (الضرائب) للانتقام من الفقراء. وقد أورثت هذه السياسات المالية العدوانية الكثير من البؤس وشظف العيش كما حصل في عهد معاوية بن ابي سفيان الذي اشاع الحرمان في المناطق المعارضة لحكمه، اذ «اجبر أهل يثرِب على بيع أملاكهم واشتراها بأبخس الأثمان». وفي العراق، كان الولاة أمثال المغيرة بن شعبة وزياد بن ابيه وسمرة بن جندب يمنعون أهل الكوفة من العمل ويعمدون الى تجويعهم. ويستعرض الباحث فصولاً من البؤس في العصرين العباسي والأندلسي. وقد كان ظهور المتصوفة رد فعل على هذا الاستبداد والعنف المادي والرمزي، اذ يفقد الانسان ثقته بنفسه وبقدراته الجسدية والجنسية والنفسية ويستقيل من المجتمع ويدخل في حياة روحية أخرى. ويواصل عمار بحثه عن العلاقة بين العنف والسلطة والجنس إلى أن يصل الى صراع المذاهب من سنة وشيعة وتعدد الفرق الدينية وصولاً الى العصر الحديث بظهور الوهابية والسلفية والاخوان المسلمين. يعود الباحث إلى العصر الجاهلي الذي كان فيه العرب يحتفون بالجنس. والدليل أن اللغة العربية تحفل بأسماء العضو التناسلي عند المرأة والرجل. يرى المؤلف أنّ «الثروة اللغوية» المتصلة بالجنس تكشف عن مدى هوس العرب في مجتمع بدائي بالجنس، وقد كانت المرأة أكثر من مرة موضوعاً للنزاع السياسي والصراع على السلطة بما يتخلله من عنف سواء في العصر الجاهلي أو العصور الاسلامية إلى حد الحرب داخل البيت الواحد!
ويرى عبد الرزاق أن اللاوعي العربي الإسلامي ما زال محكوماً حتى اليوم بثالوث السلطة والعنف والجنس. لم يتغير واقع العرب السياسي، إذ نشهد الصراع نفسه من اجل الاستحواذ على السلطة. كما أن الشعب حُكم، ويحكم طبقاً لمبدأ «العقيدة والغنيمة والسلطة» الذي اكتشفه الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري. يمثل هذا المبدأ لاوعياً سياسياً جماعياً، ويتصرف الحكام ورؤساء الأحزاب السياسية اليوم كما كان يتصرف الخلفاء والسلاطين قديماً.
إنها نفس منظومة الاستبداد والقهر وإهانة المواطن الذي ما زال محروماً في العالم العربي من حقوق المواطنة ومقموعاً من السلطة أو من التيارات الدينية التي تمارس الرقابة الدينية كوكيل باسم الله. ويشير عمار إلى أن شهوة الحكم ما زالت مستبدة لا بنفوس الحكام فقط، بل حتى العلماء والأحزاب ايضا في تواصل مع إرث القهر والاستبداد الذي ورث العنف الذي نراه اليوم يعصف بالمنطقة العربية. هو عنف تمتد جذوره في التاريخ العربي الاسلامي، ويستمد نفوذه من اللاوعي العربي الاسلامي الحافل بالدماء والقتل والاغتيال.