هل حقّاً أنّ حركات المقاومة، في عالمنا، تُجيد الهدم ولا تُجيد البناء؟هدم ما يجب هدمه هنا، كالاحتلال. رحل المُحتَل، فرضاً، والآن ماذا؟ المُقاوم في حيرة. تخبّط. سؤال المصير. عصف وجودي. يُمكن لنا أن نتصوّره كذلك. أن تقاوم ليس كأن تحكم. نبالغ ربّما إذ نتخيّله هامساً في نفسه: ليته لم يرحل. مشهديّة لئيمة. لم يُقاوم أحد كما فعل حزب الله، على مساحة العالم، إلى حد أنّه أصبح «المقاومة». مَن يُبارزه عسكريّاً؟ لا أحد. حقيقة لا أحد. لقد أنجز وأصبح في سجّله ما يدعوه، لو أراد، لأن يستعلي على الآخرين.

لكن ماذا عن البناء؟ ماذا بنى؟ هل تُراه يُفكّر في الأمر أساساً؟ هي لديه تصوّرات حياتيّة لمجتمع أبعد مِن شريحة محازبيه؟ الأجساد تتحرّك بفعل الأيض. هذا الغذاء وقوده. هذا ليس مجّانيّاً. المقاوم نفسه لا يعمل جسده إلا بالأيض. أمّا نفسيّاً، معنويّاً، أمناً اجتماعيّاً، فحكاية تطول. الحياة ليست رصاصاً فقط، لا أحد يجوع فيأكل صاروخاً، هذه قالها خبثاء سابقاً، لكن دعونا مِنهم، ولنسأل بطيب خاطر. إن كنّا، بيقين، نُدرك أنّه ليس بالإمكان أفضل مما كان، معيشيّاً، لوجب الصمت ولو أدّى بنا أن نلوك الحجر صبراً. لكن مِن المرعب، ما فوق المرعب، أن تلوح في الرأس فكرة أنّه كان بالإمكان أفضل مِمّا كان، ومِمّا هو كائن، ومع ذلك لا يحصل هذا الأفضل. هذه فكرة قاتلة. هل فعلنا كلّ شيء، مِن بين الممكنات، لتُصبح حياتنا أفضل؟ لا «يوتوبيا» في هذا الكوكب. غاية الأمر في «الأفضل» وحسب.
ربّما يقول حزب الله، لبنانيّاً، أنا لست معنيّاً إلا بالمقاومة. قالها سابقاً ومارسها. تغيّرت الأيّام وانخرط في الحكومة. كان واضحاً أنّه فعلها، حكوميّاً، مِن أجل حماية المقاومة. هذه قدس أقداسه. هو محقّ في هذا. لكن هل لا يزال له الخيار، بعدما أصبح ما أصبح عليه، كرافعة اجتماعيّة شاملة، كأمل للناس، أن يظلّ يقول أنا مقاومة عسكريّة فقط؟ بعد مقتل عثمان، الخليفة الثالث، لم يدع علي بن أبي طالب الناس لبيعته، بل الناس هم مَن هرولوا نحوه، فبايعوه استغاثة بعدله: «فما راعني إلّا والناس كعرفِ الضبع إليّ يَنثالون عليّ مِن كلّ جانب». حزب الله يعرف هذا أكثر مِن سواه. ويعرف أيضاً أنّ «المُلك قد يدوم على الكفر ولكنّه لا يدوم مع الظلم». مَن يعرف أبا ذر الغفاري أكثر مِن «المقاومة»؟ تحدّى خلافة، وحده، كانت قد أصبحت إمبراطوريّة، مِن أجل العدالة الاجتماعيّة، وعلى هذا عاش ورحل وحيداً غريباً. ترك لنا تلك المقولة: «عجبت مِمّن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه». على الناس.. كلّ الناس! إنّها هزّة للجميع. ألم سحق العدل يوصل إلى هنا وأبعد.
يوم خسر تحالف حزب الله في الانتخابات النيابيّة الأخيرة، قبل أكثر مِن ثماني سنوات، خطب السيّد حسن نصر الله وقال: «لا أخفي أنّنا كنّا متهيّبين مِن الفوز، لأنّه يعني تحمّل مسؤوليّات كبيرة ومواجهة تحديّات كبيرة، لأنّنا سنكون معنيين بتنفيذ وعودنا». مَن أصرح مِنه؟ هذا اعتراف هائل. إنّه أشبه بـ«الهروب مِن الحريّة» على طريقة الفيلسوف إريك فروم. يُدرك حزب الله أنّه غير جاهز للمهمّة. قد يُقال إنّ هذا بسبب انشغاله في المقاومة، وفي هذا وجه مِن الصحّة، ولكن هل هذا كلّ شيء؟ لنفترض، وفرض المُحال ليس بمحال، أنّ إسرائيل تبخّرت الآن فجأة، وانهارت أميركا، وماتت لوثة الوهابيّة وأخواتها، فهل لدى الحزب تصوّرات، نظريّة أقلّه، لجعل معيشة الناس أفضل؟ تصوّرات اقتصاديّة واجتماعيّة إلخ؟ هل كل مشاكل مجتمعنا مردّها إلى العدو الخارجي؟ مَن يُجازف بهذا القول؟ ما علاقة العدو بالمتعهّد الذي يحفر طريقاً، مرّة تلو أخرى، مِن أجل حصد مزيد مِن الأرباح، بينما هي لا تحتاج إلا مرّة واحدة؟ رئيس بلديّات الضاحية يعرف هذه التفاصيل جيّداً. هو أخبرنا عنها. هناك مَن يُردّد: «لا يُكلّف الله نفساً إلا وسعها». هل يفعل الوزراء كلّ وسعهم؟ ماذا عن وسع النواب، البلديّات، وقبل كلّ هؤلاء: القائمون على التخطيط لجعل حياة الناس أفضل؟ مَن هم هؤلاء وما هو أفقهم المعرفي وكيف يفهمون الحياة أصلاً؟ هل نتكلّم عن نمط العيش في الضاحية مثلاً؟ أصبح الأمر مملاً. باختصار، وبتكرار، العيش هناك مغامرة. الحديث ليس عن الضواحي الأنيقة (نوعاً ما) التي استجدت داخل الضاحية، التي غزتها البرجوازيّات الصاعدة على ظهر القوّة... بل عن ضاحيّة الضاحيّة في حيّ السلم والرمل العالي وما شاكل. العيش هناك مجازفة. لماذا يُضحَك على الناس بإيهامهم أن ذاك البناء، الذي يُشيّد، هو معمل كهرباء للمنطقة، بينما هو مجرّد «ترانس» كبير؟ لماذا تحلّ أزمة الكهرباء في مناطق مِن لبنان، جذريّاً، ولا تحلّ في مناطق أخرى؟ كلّ شيء عن «حياتنا» كُتِب وقيل سابقاً. أصبح التكرار مقرفاً. المُترفون، مِن هنا وهناك، بات يزعجهم هذا «النق». هذا طبيعي.
مَن دفع فاتورة الدم، فلذات الأكباد، أغلى ما عند الإنسان، أكثر مِن «ناس المقاومة»؟ هذه ليست دعوة للتفرقة، ولكنّها مفارقة أن تكون هذه البيئة كذلك، وهي ما هي، فما بالك عن التصوّرات والتصاميم لبلد فيه مجتمعات؟ في كلّ موسم انتخابي نسمع عن المال السياسي. ما مِن جهة إلا وتدفع هذا المال ويدور شراء الذمم. ليس مدحاً لحزب الله، ولكن، مَن يعرف أنصاره، يعرف أنّهم يقترعون لمصلحته، مِن غير أن يتقاضوا ليرة واحدة، ثم وبعد خروجهم يضعون مبلغاً مِن جيبهم في صندوق «هيئة دعم المقاومة». يُساهمون بـ«ثمن رصاصة». هؤلاء يقترعون ومِن مالهم يدفعون لمن يقترعون له. إنّه هم وإنّهم هو. هكذا هي القاعدة. ذوبان كلّي. هؤلاء لا يُمكن أن تكون مكافأة أحدهم أن يعيش حياة «كان يُمكن أن تكون أفضل». لا تكون مكافأة أحدهم أن يُقتل على يد «أزعر» ويُصبح الحدث عابراً مستساغاً. هؤلاء لا يستحقّون العيش في عشوائيّات. وما أدراك ما العشوائيّات وما في «عالمها السفلي». مشتبه من يعتقد أن أزمات اجتماعيّة، كما هي قائمة، لن تجعل منظومة الأخلاق الحميدة تنهار. الكلّ يُريد أن ينهب مِن الكلّ. الغشّ أسلوب حياة. نزعات التنمّر في تصاعد. هذا نعيشه. سيتفاقم. مشتبه مَن يظن أن هذا يُمكن أن يستمر مِن غير انفجارت، على كافة الصعد، ستطال حتماً كلّ ما هو «مقدّس».
أن تنتصر ثم تعجز عن البناء، هكذا، أصبحت تجربة عاشها جيلنا، وحولها الآن ألف سؤال. إن لم يكن الحزب يريد، أو لم يكن بإمكانه، المضي في هذه المعارك (الحياتيّة)... فلِمَ لا يُعمل على حركات اجتماعيّة يقودها الذين لا يُعادون المقاومة، يتولون المهمة، وفيهم كلّ الزخم؟ مِن الذين يعتقدون أن الطعام والشراب والطبابة والتعليم والأمن الاجتماعي أشياء ليست مِن قبيل الترف. هذه ثقافة ليست نامية في بيئة المقاومة؟ ربّما، وهذه ورطة. هل يُشجّع على ذلك؟ قبل أكثر مِن عشرين عاماً، وأمام جثامين شهداء عائدة مِن الأسر، وفيما لم يحضر المناسبة ««الوطنيّة» أيّ مسؤول مِن الدولة، قال نصر الله بأعلى صوته: «نحن نفتخر بأنّ شهداءنا وأسرانا هم أبناء الفقراء والمستضعفين والمساكين، وليسوا مِن هذه الطبقة المُترفة والساقطة». إلى متى؟ ولو قليلاً، ولو «أفضل».