قبل بضعة أسابيع احتج وزير سابق عند مسؤول في التيار الوطني الحر على إرسال التيار «مرافق نائب» للتنسيق معه كلما استدعت الحاجة المشتركة ذلك. أمس كان «مرافق النائب» والنائب يتظاهران جنباً إلى جنب، معيدين شرح الأساسيات في تكوين التيار التي يبدو أن بعض حلفاء التيار (وحتى مسؤوليه) يجهلونها أكثر من الخصوم. ففي التيار لا شيء اسمه نائب أو مرافق نائب، هناك فقط عونيون. قوة الجنرال في المؤسسة العسكرية نبعت من تجاوزه مبدأ التراتبية العسكرية خلال قيادته الجيش، مستمداً شرعيته من الاعتراف بشرعية مرؤوسيه.
وواصل الجنرال الأمر نفسه مع الناشطين في التيار 15 عاماً، حلت بعدها كارثة طغيان «الصف الأول» على كل الآخرين. واحتجاج معظم الناشطين غداة ذكرى 14 آذار الأخيرة مثلاً، لم يكن على المزاد وعرض أوراق من ذكريات التيار للبيع بقدر ما كان على ارتفاع أسعار البطاقات بحيث يحتكر الميسورون المشاركة في الذكرى العونية الأبرز. وفي هذا السياق يمكن القول إن التظاهرة العفوية التي اتجهت صوب السرايا الحكومية أمس بعثرت الصفوف العونية مجدداً، معيدة إلى التيار جزءاً مهماً من روحيته. فأياً كانت قيمة هذا الوزير السابق الدستورية ومكانة زميله الفكرية وحجم ثروات غيرهم، كانت الكلمة العونية مجدداً أمس لمن هم سواسية في الشارع. وكل من تأخر بالاستيقاظ أو ظن أنه سيستلحق نفسه باتصال هاتفيّ، كان خارج المشهد. أما الجزء المهم الآخر الذي بدا واضحاً أن بوسع «الروحية العونية» استعادته، فهو علاقة العونيين بعضهم ببعض: فانشغال النواب العونيين والمرشحين بحرتقة بعضهم على البعض، تحول أمس إلى تلاقي فرَح بعدما وجدوا أخيراً عدواً مشتركاً. فالتفاهم مع حزب الله كما التفاهم مع القوات اللبنانية والنائب ميشال المر وغيرهم كان له دائماً متحمسون ومعارضون في التيار، أما مخاصمة تيار المستقبل فتجمع الجميع (بمن فيهم الوزير جبران باسيل الذي يسعى ليكون رأس حربة الخصام بعدما كان رأس حربة الغرام). أما الأهم ضمن المسترجعات فهو وضع «الآلة الحاسبة» التي تتمسك بها قيادة التيار منذ عشر سنوات لحساب ربحها وخسارتها من كل خطوة ستقدم عليها، جانباً، أخيراً.

المطلوب الاستمرار
في المعركة حتى «السحق»
أو الانتصار، ولو لمرة واحدة

وخلافاً لكل ما يشاع، لا أحد سواء في الرابية أو في أي مكان آخر، يملك تصوراً عما يمكن أن يحققه التحرك العونيّ؛ حاله من حال جميع التحركات العونية قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري. مع العلم أن العونيين لم يتخيلوا سابقاً أن مسيرة طلابية باتجاه حاجز للجيش السوري ستؤدي إلى انسحاب الجيش السوري واستخباراته من لبنان، كما لا يتخيلون اليوم أن مسيرات سيّارة واعتصامات رمزية ستحضر النائب سعد الحريري من جدة أو بروكسل لانتخاب العماد عون رئيساً. لكن خلافاً لما تحاول بعض قوى 8 آذار أيضاً أن تشيعه، هذا ليس أمراً معيباً؛ العيب هو البقاء «متكتفين ومتفرجين» ريثما تفرض التسوية الإقليمية حلاً. فلا شك أن التحرك العونيّ يبدو دون آفاق لمن اعتاد انتظار التسويات الاقليمية، وهو يأتي في توقيت غير صائب لمن اعتاد «الضروري والشرعي والمؤقت»، إلا أن بقاء العونيين «متكتفين» إزاء التمديد للمجلس النيابي وغيره من التسويات لم يكن يشبههم مطلقاً. أساس ارتباط جيل واسع بعون هو سماعه يردد «يستطيع العالم أن يسحقني لكنه لن يحصل على توقيعي»؛ هؤلاء شاهدوا الجنرال يوقع ولو على مضض على تسوية تلو الأخرى حتى كادوا يفقدون الأمل قبل أن يشحذ معنوياتهم أمس، منبهاً إلى احتمال قلبه الطاولة حين لا يتوقع أحد. وخلافاً لما يظنه كثيرون، ليس الجنرال من لا يتعلم من تجاربه السابقة أو يفتقد للرؤية الاستراتيجية أو يتجاهل التطورات الإقليمية والدولية؛ هو يحيط بكل هذه ويندفع اليوم بعدما كان متردداً قبل شهرين فقط.
تحرك أمس بيّن أن لعبة الشارع ــ كما أكدت استراتيجية المستقبل في مواجهة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ــ لا تحتاج إلى حشد شعبيّ: يكفيها عشرات المتحمسين مع مواكبة سياسية وإعلامية كبيرة. وبناءً على ذلك، يمكن بعض التنظيم العونيّ أن يؤمن تحركات نوعية طويلة الأمد دون تكلفة مالية، كتلك التي نظمها تيار المستقبل شمالاً ضد حكومة ميقاتي. وبصرف النظر عن التفاصيل، نجحت لجنة الطلاب في التيار أمس وأول من أمس في تحقيق المطلوب منها وأكثر، فيما يفترض بالتيار أن يوضح للرأي العام أنه لا يتطلع إلى تنظيم تظاهرات مليونية حتى يزول الالتباس الذي يدفع البعض إلى الانشغال بتعداد السيارات والمتظاهرين. ومن يدقق بوجوه هؤلاء أمس، سيلاحظ وجوداً طفيفاً لمن اعتادوا التظاهر سابقاً مقابل إقبال كثيرين لم يكن أحد يتخيلهم في الشارع من قبل. وهذا يفتح الباب أمام ملاحظتين أساسيتين: أولاً، شعور كثيرين بأن العناوين التي يرفعها التيار اليوم تعنيهم أكثر مما عناهم سابقاً إخراج السوري من لبنان. وهو ما يفترض بجميع القوى السياسية ـ وخصوصاً تيار المستقبل ـ أن يتنبهوا له. مع العلم أن قيادة التيار لم تبادر كعادتها باتجاه أحد، فيما يمكن التواصل الجدي مع الرهبانيات والمدارس والمجالس البلدية وعدة نقابات وهيئات وحتى جمعيات أن يوسع رمزية التحركات. ثانياً، خسارة كثير من العونيين والكتائب والقوات والوطنيين الأحرار شرعيتهم النضالية. فلا معنى في الحروب لخوض معركة والوقوف متفرجين في المعركة الأخرى. ولم يعد يكفي من يقدمون أنفسهم كمناضلين عونيين لهم الأولوية على غيرهم بالترشح إلى الانتخابات النيابية وغيره بحكم «النضال»، تعداد مآثرهم في زمن الوصاية السوريّة، لا بدّ من إضافة المزيد عن مآثرهم في زمن الوصاية الحريريّة. طوى التيار أخيراً مرحلة التغني بالأمجاد.
الأهم أخيراً هو نجاح رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون مرة تلو الآخرى، دون غيره من الأفرقاء السياسيين، في محاولة تحريك جثة الحياة السياسية. يكفي البعض في هذا السياق تخيل حال الحياة السياسية لو لم يثر العونيون ملف قانون الانتخاب والحسابات المالية وحقوق البلديات والتنقيب عن النفط وأخيراً التعيينات الأمنية، إلا أن المطلوب أكثر من إثارة موسمية؛ المطلوب الاستمرار في المعركة حتى «السحق» أو الانتصار، ولو لمرة واحدة فقط.