لم تخرج مناورة الفيلق الشمالي عن سياقها الدفاعي والردعي، رغم بدء مرحلتها البرية الهجومية. ولم تغير المرحلة الثانية من حقيقة أنها ليست مؤشراً أو مقدمة لعدوان اسرائيلي وشيك على لبنان، بل عززت مراحل المناورة الدفاعية ثم الهجومية، كما مواقف المسؤولين السياسيين والعسكريين، حقيقة أنها تأتي في إطار خطة رفع مستوى الجاهزية التي يحاول جيش العدو من خلالها اختبار قدراته وتطوير تكتيكاته القتالية بما يتلاءم مع تغير طبيعة التهديدات وتعاظم خطورتها على الجبهة الداخلية الاسرائيلية.
ليس عرضياً أن تبدأ مناورة الفيلق الشمالي بعملية دفاعية ضد مجموعات حزب الله المقتحمة للمستوطنات، ثم الانتقال الى الهجوم البري المحدود. ويعود ذلك الى كون فرضية عمل المناورة تؤكد على أن المواجهة لا تبدأ بسيناريو عدوان اسرائيلي واسع ضد حزب الله ولبنان، ثم تنتقل المواجهات الى الداخل الاسرائيلي، كجزء من عمليات رد الحزب. بل بدأت بتصدي الجيش الاسرائيلي لمجموعات حزب الله، ثم الانتقال الى مرحلة الهجوم، كجزء من الرد الاسرائيلي. ويأتي الطابع البري المحدود للعملية الهجومية، التي بلغت في حدها الأقصى 30 كلم، بحسب ما كشفت وسائل اعلام العدو امس، عاملاً اضافياً في التأكيد على الطابع المحدود للمواجهة وكونها تأتي في سياق دفاعي ردعي. وهو ما يعزز حقيقة أن المرحلة الهجومية من المناورة أتت في سياقين، الاول عملاني، بهدف الرد والدفاع، والثاني سياسي برسائل ردعية.

قلق اسرائيلي من طول مدة الحرب المقبلة وإقرار بالعجز عن وقف صواريخ المقاومة



على الايقاع نفسه، أتت مواقف وزير الأمن الاسرائيلي افيغدور ليبرمان الذي واكب بدء مرحلة الهجوم من المناورة امس، بالقول إنها «تذكير لكل من يريد المس بأمن اسرائيل، بأن المواجهة المقبلة ستنتهي بحسم واضح لمصلحتنا». وبدا بارزاً حرص قيادة الجيش الاسرائيلي على التأكيد على طابع الرد والدفاع من خلال ما أوضحه ضابط رفيع للمراسلين العسكريين، بالقول إن «الرد على خرق سيادتنا واستهداف مواطنينا سيكون فائق القوة ومهماً»، والإعلان عن فشل حزب الله في احتلال اجزاء من اراضي اسرائيل!
وبدت المناورة رسالة اسرائيلية بهدف تعزيز صورة الردع في مواجهة حزب الله، من خلال المقاربة الاعلامية للجيش مع المناورة، حيث زود وسائل الاعلام الاسرائيلية بصور وتقارير يغلب عليها الطابع الاستعراضي، وصولاً الى مواكبتها عبر ضباط رفيعي المستوى بشرح تفاصيلها وأبعادها وأهدافها ونتائجها المقدرة، ولكن الافتراضية.
ولم يقل البعد الداخلي (الاسرائيلي) حضوراً عن غيره من الرسائل، وأبرز من عبر عنه رئيس الدولة رؤوبين ريفلين الذي تفقد قادة الفرق والألوية التابعة للمناورة، وأعلن أن «جاهزية الجيش مهمة جداً لكل الجبهة الداخلية»، مشدداً على أن المناورة رسالة من الجيش لمواطني اسرائيل بأنه «جاهز ومستعد، وهنا تكمن الأهمية الكبرى». وتوسع ريفلين في مقاربة المناورة، في ما بدا أنه انعكاس لتقدير الوضع الذي اطلع عليه برفقة نائب رئيس اركان الجيش اللواء أفيف كوخافي، فاعتبر أن «الحرب المقبلة ستكون مختلفة جداً إن من ناحية العدو (حزب الله) الذي يقف قبالتنا او من ناحية المهمات التي تنتظرنا».
مع ذلك، كان لافتاً أن العدو عالج في مرحلتي الدفاع والهجوم سيناريو اقتحام حزب الله للمستوطنات، كما لو أنه خطوة ابتدائية من الحزب، مع علمه المسبق بأن استراتيجية الأخير لا تقوم على اساس تحويل الحدود الى جبهة مفتوحة أمام العمليات العسكرية. وإنما تتمحور حول الردع والدفاع عن لبنان، وهو ما كرسه بالممارسة العملية طوال السنوات الماضية.
لكن قرار اجراء المناورة الفيلقية، في هذه المرحلة بالذات، يأتي امتداداً لخطة الجاهزية التصاعدية التي اعتمدها منذ ما بعد حرب عام 2006، وبما يتلاءم مع تعاظم قدرات حزب الله وتطور كفاءاته القتالية. وتطبيقاً لمفهوم ضرورة الاستعداد لمواجهة سيناريوات يستطيع حزب الله القيام بها، وليس مع ما ينوي ويخطط لتنفيذه في هذه المرحلة أو تلك. من هنا، كانت الخطة التي يعمل عليها الجيش، الاستعداد لكل السيناريوات العسكرية، كجزء من توفير عدة خيارات عملانية أمام المستوى السياسي، وللحفاظ على قدر من الجاهزية لتنفيذ أي خيارات تبادر اليها مؤسسة صناعة القرار السياسي.
هدفت المناورة ايضاً الى الاستعداد لكل أنواع التطورات التي يمكن أن تتدحرج سريعاً بعدما لاحظت القيادتان العسكرية والاستخبارية مساراً غير مسبوق من سرعة التحولات الاستراتيجية والعملانية في الساحتين السورية والاقليمية، ما قد ينطوي على تهديدات وفرص ما.
في كل الأحوال، برز الحد الأقصى لأي مواجهة عسكرية مفترضة، في شروحات الضابط الرفيع للمراسلين انفسهم بالقول إن «الإنجاز البري (المفترض) سيسمح للقيادة السياسية بإنجاز صفقة». وهو تعبير أبعد ما يكون عن الحسم العسكري الذي حاول في البداية الاعلام الاسرائيلي التسويق له، لكنه لم يلقَ النجاح والتأثير المؤمل.
القلق الاسرائيلي من مدة المعركة برز ايضاً في تأكيد الضابط الذي تولى شرح المسار العملاني للمناورة، على ضرورة «تقصير المدة قدر ما أمكن... وستكون هناك معركة على الوقت». ويتعارض هذا المفهوم مع ما هو مفترض أن استمرار أمد المعركة كان ينبغي أن يشكل عامل ضغط اضافياً على لبنان وحزب الله. وبالتالي يكشف هذا الحرص عن حجم المخاوف من أنه كلما طال أمد المعركة سيعني ذلك تصاعد الخسائر البشرية في صفوف جنود الجيش، وأيضاً استمرار الجبهة الداخلية في تلقي الصليات الصاروخية، التي أقر الضابط بتعذر امكانية إسكاتها. واللافت أن هذه المواقف بما تنطوي عليه من دلالات، تصدر في سياق وذروة التباهي بالمناورة وما يمكن أن تحقق من نتائج عسكرية وسياسية.