«أفكّر في الأمر، وفي الوقت نفسه، أعلم‏ أنني لن أستطيع أن أغادر هذا القفص،‏ حتى لو سمح لي الحارس بالذهاب،‏ فقد فقدت القدرة على الطيران بعيداً». بمثل هذه الضربة المباغتة، تختزل فروغ فرخزاد (1934- 1966) سيرتها في العصيان والتمرّد والسخط. وليمة شعرية دسمة تضعنا في مهب أحاسيس مضطربة لفرط جسارتها في اقتحام حقول الألغام، غير عابئة بفضيلة الحشمة الكاذبة.
هذه شاعرة استثنائية لطالما عملت على «ترويض الحواس» وتصعيد أحوال الشهوة إلى طاقتها القصوى، من دون مراوغة. كأننا على موعد بين حقبةٍ وأخرى ببزوغ نيزك شعري ملتهب، سينطفئ باكراً بسبب الإسراف في الوجع والألم والوحدة. نيزك على هيئة جملة اعتراضية تخلخل المعجم الشعري، وتنسف أسوار الأوزان والقوافي، نحو بريّة مكشوفة لا تحجبها ستائر البلاغة.
هذه سيلفيا بلاث أخرى، «انتحرت» بحادثة سير في طهران. على الأرجح بسبب شرودها خلال قيادتها السيارة نحو مجرّة أخرى أقل عذاباً، لتصطدم بجدار حقيقي هذه المرّة. بموت مبكّر من هذا الطراز، لن نستغرب الحمّى الشعرية التي عاشتها ببسالة بوصفها سيرة موازية لحياتها الملتهبة إلى آخر حدود الامتصاص، وإذا بها تترك ندبة ضخمة في تاريخ الشعر الفارسي بما يعادل ميراث حافظ الشيرازي أو عمر الخيّام، ولكن من ضفة أخرى مضادة، متلمسة مفردات حسيّة فجّة وشهوانية في وصف أحوالها ومكابداتها وأشواقها «في الظل لا تنمو الشجيرة أبداً» تقول. زيجة فاشلة، وطلاق، أديا إلى طردها من منزل ذويها، إذ اعتبر والدها الكولونيل أن طلاقها يقع في باب العار. لكن ماذا تفعل شاعرة حسّاسة مثلها حين تجد نفسها محاصرة تحت ضغط الأعراف الصارمة؟ ببساطة انتهت إلى مصحّ عقلي. جنون؟ ليكن، فالشعر في نهاية المطاف هو نوع من الجنون واللاعقلانية. هكذا وجدت حلّاً ملائماً في مقاومة هذا الحصار الخانق، بالسفر إلى روما، ثم إلى ميونخ في رحلة طويلة. وإذا بشعرها يذهب إلى بوصلة أخرى، باتكائها على ثيمات جديدة تتمحور حول العزلة في المقام الأول، العزلة التي تتناسل بطبقات من الحزن والوحدة والجدران العالية بمرايا متشظية تنطوي على اضطرابات روحية. تصف تلك الفترة بما تسميه «التخبط السريع اليائس للذراعين والقدمين، وشهقات النفس الأخيرة قبل الانعتاق». الانعتاق هنا يتمثّل بتعرّفها على الكاتب والسينمائي إبراهيم كلستان، ثم عشقها له، وإذا بهذه العلاقة العاصفة تتخذ هيئة الملاذ الحميم بعد انكساراتها الحياتية المتلاحقة. ها هي نافذة في الجدار تنفتح على بهجة مباغتة لم تعشها قبلاً (أفرج إبراهيم كلستان عن رسائلهما المتبادلة أخيراً). بتدبير من هذه العلاقة، اتجهت الشاعرة المحبطة إلى السينما مخرجة وممثلة، وكان فيلم «المنزل أسود» الذي رصدت فيه أحوال مستعمرة للجذام في تبريز، خطوة لافتة في السينما التسجيلية. تعلّقها بهذا السينمائي ثم فراقهما، ترك ندوباً عميقة في حياتها وشعرها «لم تهبني قلبك، عندما كنتُ كالنار/ أحترقُ عطشاً إلى جسدك. كنتُ في مدرسة أحلام كوكب الزهرة، قد تعلّمتُ فنون الجاذبية والفتنة» تقول. رغم ذلك لم تنكسر، فقد واجهت الصعاب والإشاعات بجسارة وأسى «الطريق بلغ نهايته، وقد وصلت من الدرب مشعّثةً مغبرّة/ عطشى والدرب لم يوصلني إلى النبع. واأسفاه كانت مدينتي قبراً لآمالي». كأنها هي الأخرى مصابة بجذام محيطها المغلق، فعالجته بالكتابة، عتبة وراء أخرى راكمت معجماً للأشواق بمذاقٍ وحشي برنين لغوي متوتّر، مفترقة عن مجايليها بقوة النبرة واستنفار الحواس، والنظرة المغايرة. تكمن أهمية شعر فروغ فرخزاد إذاً، باتكائها على الخبرة الشخصية، أو ما يسميه أرشيبالد مكليش «شعر التجربة»، ذلك الذي تنشئه الحواس والانفعالات الداخلية والرغبة بالطيران خارج قفص الأعراف «قلبي يشتاق إليك في غرفتي ويحتاجك عند ساعات العصر المثقلة بالحرّ والخَدر، عند تلك الغفوات الصيفية... أحقاً سأراك ثانية وسأقبّلك؟». هذا المقطع من إحدى رسائلها إلى إبراهيم كلستان، نموذج على ذلك التماهي بين اضطرابات العيش وتحريرها في الكتابة، فهي تردم المسافة تماماً ما بين صبواتها الشخصية وشعرها، أو تناوب الغريزة ووعي الذات كما في كتابها الأخير «لنؤمن ببداية فصل البرد» (1967). قصائد نافرة جُمعت بعد رحيلها المفجع، أقرب ما تكون إلى خفقة طائر بجناحٍ مكسور: «الريح تعصف في الشارع، منذرة ببدء الخراب. أشعر بالبرد، ويبدو أنني لن أعرف الدفء مجدداً. أشعر بالبرد وأعرف أن ما من شيء سيبقى سوى بضع نقاط من الدم». هذا الوضوح في مواجهة مصيرها وضع نصوصها في شباك اليأس والفقدان. صدور أعمالها الكاملة بلغة الضاد بترجمتين («دار المدى»، ترجمة مريم العطّار ـ و«دار المتوسط»، ترجمة محمد أمين الكرخي)، فرصة ثمينة لتلمّس تلك النتوءات النافرة في شعرها وسيرتها وتمرّدها، وإلى تلك التقاطعات الصريحة مع نصوصها لدى سلالة من الشاعرات العربيات في ما يخص قصيدة الجسد، أو كتابة العصيان، وكأنها لم تغب يوماً.