■ ما الدور الذي يمكن أن يضطلع به علم الاجتماع اليوم إثر التغييرات الحادة التي شهدتها بلدان عربية عدة؟- يعتبر علم الاجتماع من أهم العلوم في العصر الحديث نظراً إلى دوره في دراسة وتفكيك وتحليل الظواهر الاجتماعية والتحولات والتغيرات البنيوية والصراعات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المجتمعات، خصوصاً أنّ العالم يقف اليوم على عتبة تغيرات بنيوية شاملة، ويستشرف نظاماً جديداً ينقلنا من مفهوم الدولة القومية إلى الدولة «العالمية» التي تتجاوز حدود الدول والأقاليم الجغرافية والاقتصادية والسياسية، وتخترق حواجز القيم والعادات والتقاليد.

وإذ تهيئ العولمة اليوم شروطاً جديدة وملائمة للتكامل العالمي أكثر مما مضى، فهي في الوقت نفسه، تنتج تحديات تضطر المجتمعات الإنسانية، خاصة الدول التي تسير في طريق النمو، إلى التعامل معها بحذر شديد، بل الخوف على مستقبلها.
الحقيقة أنّ علم الاجتماع يمكنه، أكثر من غيره من العلوم الإنسانية، تشخيص الظواهر الاجتماعية المرضية وتحليلها وإيجاد الحلول السوسيولوجية المناسبة لها، ومساعدة الإنسان في تعميق وعيه الاجتماعي، وإيجاد الوسائل المناسبة لمعالجة الأمراض الاجتماعية، خصوصاً بعد التحولات والتغيرات البنيوية الحادة التي شهدتها الدول العربية التي أنتجت ردة حضارية فكّكت الدول التي كانت في طريقها إلى الاستقرار في النصف الثاني من القرن الماضي، وأشاعت فيها الفوضى والعنف والإرهاب ومزقت النسيج الاجتماعي والأخلاقي.

■ هل قدّم علم الاجتماع أجوبة شافية لتشخيص عوامل الخلل والتناقض بين ما يفكر به المرء، وبين ما يقوم به في الواقع الاجتماعي؟
- رغم أنّ علم الاجتماع في البلدان العربية جديد نسبياً، غير أنّه لم يستطع القيام بالدور المطلوب منه، باعتباره علماً فاعلاً في معالجة كثير من الأمراض الاجتماعية التي تنخر في جسد المجتمع، وفي تشخيص عوامل الخلل والتناقض في الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإيجاد الحلول المناسبة لها. ظلّ علم الاجتماع حبيس جدران المعاهد والجامعات العربية. والأخيرة جزء من أزمة المجتمعات العربية وتأزمها، إذ تسعى إلى إنتاج موظفين، لا باحثين ومفكرين اجتماعيين يدرسون ويفككون ويحللون وينقدون الظواهر السيئة. أين علماء الاجتماع العرب مما أنتجه الربيع الدامي؟ أين الدراسات الجادة للفقر والفقراء واليتامى والأرامل والنازحين والمقعدين الذين تركتهم الحروب والكوارث، معزولين عن كل رعاية؟ أين هم من استشراء الفساد في جسد الدولة والمجتمع؟ أين الدراسات السوسيولوجية التي تبحث في العنف والإرهاب وسببه؟ أين علماء الاجتماع من الردة الحضارية التي أرجعت الدول والمجتمعات الى ما قبل عقود طويلة؟ علم الاجتماع في أزمة، وهي جزء من أزمة المجتمع. كما أنّها أزمة مؤسساتية، لأنه مرتبط بالمؤسسات الجامعية، وليس بمعاهد بحث علمية مستقلة، وعدم استقلاليتها لا يمنحها القدرة على إنتاج معرفة سوسيولوجية نقدية مرتبطة بقضايا المجتمع الأساسية.

■ هل يعني فصل الدين عن الدولة تنحية الدين عن الحياة الاجتماعية؟
- تثير قضية فصل الدين عن الدولة اليوم جدلاً ونقاشاً واسعاً. في الوقت الذي أصبحت فيه هذه القضية من المسلمات الأساسية في المجتمعات الديمقراطية الحديثة، تحولت في المجتمعات العربية اليوم إلى إشكالية مثيرة للصراع الاجتماعي والسياسي، بخاصة بعد صعود الإسلاميين إلى السلطة. بالطبع، لا يمكن تنحية الدين عن الحياة الاجتماعية، لأنّ الدين ـــــ تاريخياً واجتماعياً ــــــ من أهم المكونات للقيم والشعائر والطقوس التي تنظم شؤون الحياة الاجتماعية والدينية. فصل الدين عن الدولة والسياسة، يعني احترام الدين وقيمه الروحية، ويعني أيضاً حماية الدين والعقيدة من العابثين بهما.

■ أحد أهم أسباب فشل الحداثة في المجتمعات العربية والإسلامية أنّها دخلت من الأبواب الخلفية، ولم تلج إلى عمق البنية المجتمعية، مما أحدث صراعاً اجتماعياً وقيمياً وأخلاقياً. ما صحة هذا القول؟
- منذ دخول عناصر التحديث إلى الدول العربية خلال القرن التاسع عشر، وأقصد منجزات الثورة الصناعية، بفعل الاتصال الحضاري والتثاقف والتقليد والمحاكاة تارة، وعن طريق الحروب والاستعمار والتبعية طوراً، لم تشهد الدول العربية تحديثاً شاملاً للبنى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتقنية، لا على مستوى النظرية، ولا على مستوى الممارسة العملية. اقتصر التحديث على جانب واحد، هو العناصر المادية، أي منتوجات الحداثة الأوروبية.
وإذا كان «التحديث» الذي اقتحم بنيات المجتمع التقليدية ذات الموروث الاجتماعي والاقتصادي الراكد، قد مسّ سطح المجتمع وقشرته الخارجية ولم يدخل إلى عمقه الداخلي، فنحن لم ندخل عصر الحداثة من أبوابه الأمامية، وإنما من أبوابه الخلفية. وهو ما أحدث تناقضاً وتناشزاً اجتماعياً وقيمياً وسلوكياً، حيث أخذنا منجزات الحداثة المادية دون قيمها ومعاييرها وأفكارها العلمية والتقنية. لذلك، ما زالت كثير من أفكارنا وقيمنا مشدودة إلى القرون الوسطى، رغم أنّنا نستخدم تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين. جوهر الحداثة هو الحرية، التي تؤكد على حقوق الإنسان في تقرير شؤونه المدنية ومصيره ومستقبله. في المقابل، ترى العقلانية في الذات مصدر المعرفة، وتؤكد على سيطرة الإنسان على الطبيعة وتذليل العلم والتقنية لخدمته لا استعباده. العلمانية تقوم أساساً على فصل الدين عن الدولة، لا معارضة الفكر الديني والعقيدة، وتعمل على التمييز بين ما هو دنيوي وما هو مقدس، ووضع حدود بينهما.
لعب التعصب ضد الغرب دوراً هاماً في إعاقة مشروع التحديث. ويعود ذلك إلى ردة الفعل الضيقة لصدمة الحداثة على الفئات التقليدية، التي وقفت ضد الانفتاح على الحضارة الغربية وعناصرها المادية والمعنوية، بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، واندلاع الحركات الاصولية الإسلامية في النصف الثاني من القرن الماضي، التي لم تعط أولوية للتحديث والتنوير العقلاني، بقدر ما أعطت للنضال الايديولوجي والتعبئة السياسية.

■ كيف تقرأ، أنت المقيم في أوروبا، رواج مصطلح الإسلاموفوبيا؟
- ما قدمه الفكر الإسلامي الراديكالي غلب فيه السياسي والايديولوجي على الفكري والثقافي، لصبّ ذهن المسلم البسيط في قالب يتلاءم والتحديات الراهنة التي أثارتها الصحوة الإسلامية التي قامت على فكرة أنّ الواقع الاجتماعي فاسد وأن أنظمة الحكم مستبدة، وعلى المسلمين المؤمنين مواجهة هذا الفساد والاستبداد بالأدوات نفسها التي يستخدمها الحكام الظالمون. والهدف هو تسييس الدين والدخول في صدامات عنيفة ضد المجتمع والحكومات القائمة، وإباحة جميع الوسائل ضدها.
ومع محدودية الحركات الأصولية التي تمارس العنف والإرهاب، فإنها رسّخت الصورة المعادية للإسلام، التي يحملها الغرب، بسبب قرب العالم العربي والإسلامي من أوروبا، وتداخل المصالح والأهداف الاستراتيجية، والأحكام المسبقة التي يحملها الأوروبيون منذ الحروب الصليبية، إلى جانب عدم التسامح والخوف من الآخر.
وإذا كانت صورة العربي – المسلم في القرون الماضية، هي صور «العدو – الكافر»، فإنّها أصبحت اليوم صورة «الأصولي – الإرهابي»، خاصة بعد تنامي الحركات الإسلامية في دول عربية وإسلامية عدة. منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، شاع في الدول الغربية ما يسمى «الإسلاموفوبيا»، وما صاحب ذلك من شعار كراهية العرب والمسلمين. اتسع هذا الشعار مع انتشار بعض الحركات الإسلامية المتطرفة في أوروبا أيضاً، وتوسع نشاط «القاعدة» وأخواتها في أفغانستان وامتدادها إلى دول عديدة، خاصة بعد الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان من قبل التنظيمات المتطرفة ضد من يخالفها في الدين والعقيدة من قتل وسبي وتشريد، كما حدث في العراق مع المسيحيين والأيزيديين والشبك والتركمان والشيعة والسنّة العرب. ومثلما فعل الاخوان المسلمون باضطهاد الاقباط، وكذلك ما فعلته حركة «بوكو حرام » في نيجيريا... عندما يرى الغربي هذه الأعمال الفظيعة، كيف تريده أن ينظر إلى المسلمين، خاصة على المستوى الشعبي العام؟ وكيف تريده أن يضع صورة للإسلام غير تلك التي يشاهدها من خلال وسائل الإعلام؟
في الحقيقة، دفع العرب والمسلمون ثمن الأعمال الإجرامية التي تقوم بها الحركات السلفية المتطرفة في كل مكان. وهناك نظرة ارتيابية وأحكام مسبقة لدى الشرق والغرب كل واحد إزاء الآخر. وقد أشار فريد هوليداي في كتابه «الإسلام والغرب» إلى التقصير من قبل كلا الطرفين في فهم العلاقة المتميزة بين العرب والمسلمين والغرب.

الجامعات العربية جزء من الأزمة لأنّها تسعى إلى إنتاج موظفين لا باحثين ومفكرين اجتماعيين

■ يعزو بعضهم الانكسار الذي أصاب الشخصية العراقية إلى انتهاكات فظيعة تعرّضت لها على مسار التاريخ، ما رأيك؟
- المجتمع العراقي مجتمع فسيفسائي متعدد ومتنوع الأعراق والأديان والقبائل والطوائف واللغات من جهة، وفيه الكثير من الصراعات والانقسامات والاختلافات العديدة. كان يفترض بهذا التعدد والتنوع والتداخل أن يكون عامل غنى وتطوير وإبداع. لكنه أدى ـــــ تحت ظروف وشروط ذاتية وموضوعية ـــــ إلى عدم تطور وعي اجتماعي وثقافي ومدني كفيل بتشكيل هوية وطنية واحدة.
التركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق من الاستبداد والقمع والاستلاب، جعلت العراقيين يعيشون واقعاً مريراً مملوءاً بالظلم والقهر والحروب والحصار والمقابر الجماعية. بدأت تلك التركة بمشروع الهيمنة على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى الثروة والمعرفة والثقافة والتعليم والمنظمات الجماهيرية. كل ذلك قاد إلى عسكرة المجتمع التي قادت بدورها إلى حروب داخلية وخارجية، مما أدى إلى الغزو والاحتلال وسقوط العراق في دائرة من الفوضى والإرهاب والخراب.
حدثت التغيرات البنيوية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وفي فترة الحصار تحديداً، وأنتجت انكساراً سيكولوجياً وتشوهاً مجتمعياً وتحللاً قيمياً، وعرّضت الشخصية العراقية لانتهاكات فظيعة هزت ثوابتها الوطنية، وفككت البنى الاجتماعية والنفسية والثقافية، ومزقت النسيج الاجتماعي والعائلي والأخلاقي. ما أدى إلى ارتفاع نسبة الجريمة وشيوع العصابات الإجرامية وانتهاكات حقوق الإنسان. وقد سبّب كل ذلك ضمور الطبقة الوسطى وارتفاع نسبة البطالة وازدياد القحط والمجاعة. لا بد من القول بأنّ الحصار أهان كرامة العراقي، وأضعف هيبة الدولة، وحطّم الجيش وهيأ لاحتلال العراق. في الحقيقة، فإنّ هزيمة الجيش العراقي في الكويت بلورت نهاية النظام. ورغم أن الشخصية العراقية متسامحة وحية ومسالمة بطبيعتها، ولها قابلية على تحمل المشاق، واهتمام بالأدب والفن والشعر، ومتعلقة بالأرض، لكنّها ــــ بسبب ما تعرضت له ــــ أصبحت مشوهة ومفككة ومنكسرة ومستلبة ومنقسمة على ذاتها: شخصية متسلطة قمعية وأخرى عاجزة نكوصية.

■‬ دوامة العنف التي ما انفكت تدور وتطحن المجتمع العراقي منذ عقود لغاية أحداث الموصل الأخيرة، ما أسبابها؟
- منذ قرون، كان العراقيون وما زالوا ضحايا الاستبداد والعنف والقهر والقمع. أصبح العنف إرثاً ملازماً لهم، ابتداء من حكم نبوخذ نصر، مروراً بمأساة كربلاء وطغيان الحجاج واستبداد المنصور والسفاح وهجوم المغول، واستباحتهم لبغداد، والصراع الدامي بين العثمانيين السنة والصفويين الشيعة لاحتلال العراق، وحتى اشكال الاستبداد والقمع والحروب والحصار والمقابر الجماعية التي خلّفها نظام صدام حسين، وانتهاء بالاحتلال الغاشم، وما أفرزه ويفرزه من فوضى ودمار وصراعات اثنية ودينية وطائفية تهدّد حاضر العراق ومستقبله. كذلك الأعمال الارهابية ذات الايديولوجية التكفيرية لـــ «داعش»، دمّرت بشكل منظم التاريخ والتراث والذاكرة الثقافية، واستباحت الأعراض، بخاصة من الأقليات الدينية، وسبي نساء الايزيديات وبيعهن في أسواق العبيد في أكبر عملية استعباد جماعي في القرن الحادي والعشرين.
من الطبيعي أن تتأثر الشخصية العراقية بهذه الظواهر التراجيدية وتجعل سلوك الفرد العراقي متناقضاً ومزدوجاً، قلقاً ومتوتراً ومستلباً وغير مستقر، تلفه مسحة من الحزن والأسى، التي تنعكس جلياً في اساطيره وأشعاره وأغانيه، نتيجة الصراع المحتدم مع الطبيعة من جهة، ومع السلطات من جهة أخرى، ومع الآخر من جهة ثالثة.
العنف ثقافة، وهو تطبّع واكتساب. تاريخ العراق الحديث يؤشر إلى أساليب متنوعة من العنف والقسوة. فقد تم قتل الملك فيصل الثاني والوصي عبد الاله ونوري السعيد وغيرهم خلال ثورة 14 تموز 1958، وقامت الغوغاء بسحل قتلى في بغداد والموصل وكركوك عام 1959. كما قتل الزعيم عبد الكريم قاسم بقسوة، وأُعدم سكرتير وعدد من أعضاء الحزب الشيوعي وكثير من المحسوبين على اليسار عام 1963. وأبيد مئات الألوف في عمليات الانفال وحلبجة والمقابر الجماعية. وقد استخدمت أبشع أشكال العنف بعد هزيمة العراق في الكويت، ثم خلال الانتفاضة الشعبية عام 1991. وقد ازداد العنف والقسوة والإرهاب بعد سقوط النظام السابق واحتلال العراق.
والسؤال هو: إذا كان العنف سلوكاً مكتسباً عند كل الشعوب ويمكن ملاحظته وقياسه، فهل إنّ مظاهر العنف في المجتمع العراقي أكثر بروزاً من غيره من المجتمعات؟ وما هي الأسباب والدوافع التي تقف وراءه؟ وهل أنّ الظروف الموضوعية والذاتية التي تحيط به، وكذلك نمط الثقافة وسمات الشخصية الاجتماعية والنفسية لها دور في ذلك؟! الإجابة على هذه التساؤلات، تحيلنا إلى فهم وتفكيك وتحليل الظروف الموضوعية والذاتية، وكذلك البيئة الفكرية والمجتمعية التي أسهمت في تشكيلها والبحث عن الدوافع الظاهرة والخفية التي تختفي وراءها.
إنّ عدم الاستقرار وشيوع أساليب مختلفة من الاستبداد والقهر والقمع من الحكومات المتعاقبة، والإرهاب الدموي من قبل «داعش» وايديولوجيته التكفيرية التي قادت البلاد إلى أتون صراعات أهلية مدمرة... كل هذه الفوضى أحدثت تمثلات فكرية جوهرية طالت الذهنية العراقية المستلبة أصلاً، وغيّرت طرائق التفكير والعمل والسلوك لفئات كبيرة من العراقيين. كما أحدثت اختلالات في المنظومة الاجتماعية والثقافية والقيمية، مثلما طالت شبكة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تفككت خلال العقود الأخيرة.
وإلى جانب الاستبداد والعنف والإرهاب، هناك عنف اجتماعي يظهر في ضروب من القمع الذي يمارس جسدياً واجتماعياً ونفسياً بصورة مخفية ومسكوت عنها، أو حين يمارس تحت شعارات دينية واجتماعية وأخلاقية، بخاصة ما يمس المرأة والضعيف والقاصر والمعوق، أو الاتهام بالباطل والشتم والكفر بالمقدسات، والعنف الاقتصادي والسياسي واستشراء الفساد الإداري في مرافق الدولة والمجتمع. وليس هناك من يجرؤ على محاسبة الفاسدين والمرتشين، بحيث تحول مفهوم السلب والنهب إلى ظاهرة اجتماعية خطيرة.
إنّ بناء المجتمع المدني لا يعني بناء مؤسسات مدنية فحسب، بل تكوين «جماعات ضغط» مهمتها مراقبة مؤسسات الدولة وتحديد الحقوق والواجبات والمصالح المرتبطة بها، بمعنى آخر أن لا تكون ايديولوجية، وأن تكون متحررة من المصالح والغايات ومن تدخل الدولة ومؤسساتها، وفي مقدمة ذلك فصل ما هو مدني عما هو سياسي. إنّ بناء المجتمع المدني المنشود ليس معطى جاهزاً، وإنما هو سيرورة اجتماعية - ثقافية لا تنمو ولا تتطور إلا في فضاء من الحرية والتعددية والديمقراطية. وهو كفيل بإعادة الاعتبار إلى الإنسان العراقي المكسور وإعادة تشكيل هويته الوطنية الموحدة.

‫■‬ لكن في المقابل الشخصية العراقية عبر التاريخ، كانت صعبة المراس لا ترضى بقائد، هل تعتقد أنّ هذا سبب التناحر اليوم؟
‫-‬ الشخصية العراقية بطبيعتها طيبة ومسالمة ومتوازنة في سيكولوجيتها، غير أنّ المآسي والمحن والحروب والكوارث التي عاشتها على مرّ التاريخ جعلتها مستلبة، ماضوية قلقة وعنيدة وصعبة المراس. هذه الخصائص ليست طبيعية فيها، بل مكتسبة، مما وضع العراقي في دوامة من الصراع والتناحر لا يرضى بأي قائد أو رئيس، لأنّ أغلب الرؤساء الذين حكموا العراق كانوا استبداديين. ومن الملاحظ أنّ أغلب قادة العراق هم من الأجانب أو من الأطراف، كما حدث عند تأسيس الدولة العراقية الحديثة في مطلع القرن الماضي. فشل العراقيون في اختيار ملك لهم من داخل العراق، فتم تنصيب الملك فيصل الأول ملكاً، وهو عربي لكنه غير عراقي، وهذا دليل على عجزهم عن اختيار قائد لهم من داخل العراق.
من جهة أخرى، يلاحظ المرء أنّ عدداً من العراقيين يدعون اليوم الى رجل قوي «ديكتاتور» لحكم العراق بعد الفوضى والمآسي والأزمات المتتالية، وبعد أن يئسوا من وصول حاكم عادل الى سدة الحكم بخاصة بعد سقوط النظام السابق بيد قوات الاحتلال.
إنّ ترقب ظهور كاريزما في هذا الجو غير الطبيعي، ليس غريباً. في مرحلة الفوضى والإرهاب والضياع، تجد بعض المكونات الاجتماعية والأحزاب السياسية والدينية والطائفية تربة خصبة للتعبير عن نفسها والقيام بدور سياسي فعال، وظهور «كاريزمات» تعتقد فئات من الجماهير بأنها تقودها نحو الخلاص. وقد يستغل بعضهم ممن ابتلي بـ «مرض الطفولة الثوري» مثل هذه الظروف العصيبة ليعلن ولادة «كاريزما» جديدة، ويعبئ الشباب بالآمال، ليمتص جزءاً من غضبهم ويجعل من نفسه «بطلاً» يحلم بقيادة «الجمهور»، كما حدث في السنوات الأخيرة.

أين علماء الاجتماع
العرب مما أنتجه الربيع الدامي
من حروب وكوارث؟

السوسيولوجيا تبيّن لنا بأن الذوبان في الجماعة أو القبيلة أو الطائفة والتماهي فيها، يعني اتخاذها «هوية» تحصن الفرد من الذوبان في غيرها وجعلها ملاذاً وملجأ تحميه من المخاطر الداخلية والخارجية، وتكون في الوقت نفسه وسيلة من وسائل تصريف العدوانية المتراكمة من الإحباطات الوجودية، إلى جانب أهدافها الشخصية والمصلحية. في هذه الوضعية من العجز والنكوص، غالباً ما يتجه الأفراد نحو زعيم أو قائد أو «مهدي» يقودهم نحو الخلاص، خاصة في أوقات الحروب والمحن. كما أنّ الصدمات الحادة التي تعرضت لها الشخصية العراقية وما رافقها من انتكاسات ومآس وحروب وحصار، كرّست مفاهيم ومواقف وسلوكيات جديدة مسخت شخصية العراقي، وفي مقدمتها الولاء المطلق للأقوى. وهذه بدورها تكرس ظاهرة «عبادة الشخصية».
وتأليه الفرد ليس جديداً في العراق، ربما هو إرث يعود إلى حضارة وادي الرافدين القديمة. ورغم مما وصلت إليه حضارة سومر وبابل واكد من تطور ورقي، فإنّ تأليه الفرد وعبادته كانا ملازمين لعبادة الآلهة. فالبابليون وكذلك المصريون القدماء، يعتبرون الإله راعياً يقودهم إلى المرعى ويتولى إطعامهم والسهر عليهم عندما ينامون. لذا، جمعوا بين الإله والملك في شخصية واحدة، وهذا يعني أيضاً تقلص الوظائف الاجتماعية التي كانت من نصيب الإله فقط، وتحولها إلى الملك بإرادة إلهية مقدسة يبرر بها استحواذه على جميع المؤسسات في المجتمع واحتكاره السلطة لنفسه. وهو ما يسهل بالتالي تأليه المجتمع له والتحول بالتدريج الى عبادة الشخصية.
لعل ثقافة العنف والاستبداد التي تسربت الى نسيج الشخصية العراقية، لا تنزل إلى مستوى الممارسة العملية إلا اذا سنحت الفرصة بذلك، ولا يظهر المستبد الطاغي في مجتمع ما، إلا إذا كان هناك من يذعن لنظام هيمنة وتسلط أبوي - استبدادي.
والحقيقة، فإنّ العراقيين عبر التاريخ جرّبوا حكم الطغات الذين جرّوا البلاد والعباد إلى حروب مدمرة وإلى استبداد وقمع وتدمير.

■ كيف تحدد العلاقة بين المدنية والدين كمفهومين؟
- هناك نقاط التقاء وافتراق بين المدنية والدين. الدين تجربة روحية تربط بين الله والإنسان، وبين ما هو روحي مقدس وغيبي مطلق. هذه التجربة تنظم حياة الإنسان الروحية، وتدعوه لفعل الخير والصلاح. أما المدنية، فتنظم حياة الإنسان الدنيوية، بغض النظر عن العقيدة الدينية، وتضمن للمواطنين حقوقهم من دون تمييز على أساس المواطنة.
الدين، في الواقع، متجذر في الوعي الاجتماعي ومؤثر بطرائق العمل والتفكير والسلوك، وليس سهلاً نفيه وإلغاء دوره من المجتمع.
ولعالم الاجتماع والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس رأي مفيد في هذه العلاقة، إذ يعتبر أنّ الدين مسألة خاصة بالفرد، إلا أنّه يحاول في الوقت ذاته تشكيل علاقة بين العلم والدين، وانعكاس تلك العلاقة على الممارسة السياسية. وبسبب الإقصاء والتهميش للفكر الديني، وضع هابرماس نظرية للمجتمع ما بعد العلماني التي يتلمس فيه استمرارية الوعي الديني في محيط يستمرّ بعلمنة نفسه وضرورة مشاركته في الفكر الديموقراطي المتنور. فهو يدعو إلى تصالح بين العقل والدين، فالدين وحده هو الذي يمكنه أن يساعد الحداثة المتعثرة وإخراجها من المأزق الذي أوقعت نفسها فيه. كما يدعو الى «لغة دينية» وتصوّر جديد عن العالم للتعامل مع المؤمنين، لأنّ بعضهم كان قد فقد الأمل، حتى أولئك الذين فقدوا العلاقة بالدين من العلمانيين وغيرهم، بعدما أصبح الدين مصدر خطر أمني، وترك الإرهاب بصماته على الجميع في كل مكان في العالم.
محاولة هابرماس إعادة بناء الدين ووضعه في سياق المجال العام وربطه بالتطور المجتمعي والعقل، لإحداث الانسجام بين الأيديولوجيات المتصارعة والمعتقدات الدينية المتنافسة، التي يجب عليها أن تتحاور لا أن تتصارع، وهو ما يعود بالخير على الجميع.
نظرة هابرماس العقلانية تنتصر للدين العاقل الذي يؤمن بالتسامح وينبذ العنف والإرهاب والاضطهاد باسم الدين.

■ التجديد في المجتمعات العربية لا يزال نخبوياً، الثقافة العامة مثقلة بإرث الماضي، إلى أي مدى يمكن تجسير الهوة بينهما؟
- يمكننا القول بأنّ الثقافة العربية أبوية ماضوية، وصوتية محافظة، وتقليدية ظلت تتحكم بالبنى الفكرية والاجتماعية التقليدية، ولم تشهد تجديداً وتحديثاً حقيقياً على مستوى الخطاب الثقافي والاجتماعي والديني والسياسي. والحداثة لم تمس سوى الشعر، الأداة المعرفية الوحيدة، والخطاب الادبي السائد الذي يعكس شخصية العربي وذهنيته. فالشعر، كان ولا يزال «ديوان العرب». لذلك يمكننا القول بأن ليس هناك تجديد اجتماعي وثقافي وتقني. كما أنّ الثقافة العربية لا تعرف النقد. النقد الذي يمارسه بعض الكتّاب، ليس نقداً لمعرفة الذات وتغييرها، لأنّ الذات العربية ما زالت لم تألف النقد، باعتباره الأداة التي يمكنها شحذ الفكر وتحريك الطاقات الكامنة وإبراز عيوب طرائق التفكير والعمل والسلوك، وبالتالي تطوير الخطاب الثقافي العربي. وإذا اختزلت الحداثة في الشعر وأغلقت أبوابها عليه، فمعنى ذلك عدم وجود حداثة أخرى عند العرب، لا حداثة فلسفية أو علمية أو تقنية. خلال القرون الماضية، أنجبت الأمة العربية مئات الشعراء، لكنها لم تنجب فيلسوفاً واحداً مثل ابن رشد أو أديباً موسوعياً مثل الجاحظ أو فيلسوفاً اجتماعياً مثل ابن خلدون. ويعود ذلك إلى أنّ الثقافة العربية التقليدية ما زالت قوية وفاعلة تستطيع الوقوف أمام أي عنصر تحديثي. كما يعود ذلك إلى الدور الذي تقوم به في تشكيل الأنا والـ «نحن» وتضخيمها إلى درجة أصبح الشعر بمثابة المكون الذهني والخيالي للذات العربية.
ماضوية الثقافة العربية هي أساس عدم دخولنا الحداثة من أبوابها الأمامية. ما زالت أسئلة العقل والحرية والتنوير والنقد مغلقة بسبب شيوع الاستبداد والنزعة الأبوية البطريركية والسلوكيات اللاعقلانية التي أفسحت في المجال أمام نمو الخطاب الاصولي المتطرف وايديولوجيته التكفيرية، واتساع ثقافة العنف والإرهاب والعنف الاجتماعي على جميع المستويات.




الكاتب في سطور

ولد ابراهيم الحيدري في مدينة الكاظمية (بغداد) عام 1932 حؤي أكمل الدراسة الابتدائية والثانوية. التحق بـ «جامعة بغداد - قسم الاجتماع»، وحصل على شهادة البكالوريس في الآداب عام 1962. أكمل دراسته العليا في المانيا، وحصل على دكتوراه فلسفة في الانثولوجيا الاجتماعية من «جامعة برلين الغربية» عام 1974. عمل استاذاً محاضراً في جامعات بغداد وبرلين وعنابة في الجزائر. ألف وترجم العديد من الكتب والبحوث النظرية والميدانية باللغات العربية والالمانية والانكليزية. من أعماله: «صورة الشرق في عيون الغرب»، «تراجيديا كربلاء - سوسيولوجيا الخطاب الشيعي»، «النظام الابوي واشكالية الجنس عند العرب»، «النقد بين الحداثة إلى ما بعد الحداثة»، «سوسيولوجيا العنف والإرهاب».