تشارف الأزمة الخليجية على دخول شهرها الرابع من دون أي بوادر لحل يعيد وصل ما انقطع بين «الأشقاء». ومع مرور تلك الفترة المستطيلة، تبدو دول المقاطعة واقعة في مأزق اللاخيار، بعدما استنفدت كل ما في جعبتها من أدوات مواجهة ووسائل ضغط، خصوصاً أن الراعي الأميركي عمد إلى رفع «البطاقة الحمراء» إزاء تلويح السعودية والإمارات بالذهاب أبعد مما ذهبتا إليه حتى الآن.
إلا أن ذلك الجمود الذي لا يُحسب لمصلحة «المحمدين» (محمد بن سلمان ومحمد بن زايد) المتطلّعين إلى حسم سريع على أكثر من جبهة، لا يعني أن ليس ثمة كسب بالنقاط أمكن تحقيقه من خلال تشديد الخناق على الدوحة، إضافة إلى مكاسب خاصة لكل دولة من دول المقاطعة بعيداً عن الأهداف العريضة المعلَنة لحملتها على قطر.
في منطلقات الحملة وامتدادها الزمني وتكتيكاتها، أثبتت عواصم «الرباعي»، منذ اللحظة الأولى لبدء الهجوم، خفة ونزقاً لا يضاهَيان. إذ إنها عمدت إلى الإدلاء بجميع ما في دلوها في أيام معدودات، حتى إن جزءاً كبيراً منه أُلقي في الليلة الأولى من الأزمة (23 - 24 أيار)، التي ظهر فيها الخطاب الشهير المنسوب إلى أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني. كان من الطبيعي أن تنخرط الوسائل الإعلامية المصرية، سريعاً، في جوقة لم تبق ولم تذر، على اعتبار أن علاقتها ومن تمثّل بقطر متوترة في الأصل، وأن التحاق القاهرة بركب المقاطعة ومزايدتها على قائديه لم تكن تحتاج إلى كثير تخمين وتحليل. إلا أن الفجاجة والصلف اللذين ظهرت عليهما الوسائل الإعلامية السعودية والإماراتية فور صدور أمر الهجوم، هما اللذان أثارا استغراب كثيرين، واستدعيا، خلافاً لما أرادته الرياض وأبو ظبي، تعاطفاً مع الدوحة، التي صورتها عجرفة قائدَتي الحملة «حملاً وديعاً» يريد «الذئاب» المحيطون به التهامه. هكذا، خسر السعوديون والإماراتيون، بأسرع مما كان متوقعاً، ميزة التكتيك والتدرج التي تتيح لهم محاصرة الخصم وإمكانية المناورة، وأسدوا، من حيث لا يشعرون، خدمات دعائية للدوحة.
الخطأ نفسه ارتكبته دول المقاطعة على مستوى مضمون الحملة الإعلامية، والتي تركزت على اتهام قطر بـ«دعم الإرهاب» و«التحالف مع إيران». تهمتان لم يكن عسيراً دحضهما على أساس قاعدة واضحة و«خبيثة» أرساها الأميركي بقوله «إنه طريق ذو اتجاهين... لا توجد أيدٍ نظيفة»، بحسب تعبير كبير مستشاري وزير الخارجية الأميركي، آر سي هاموند. على هذا الأساس، ووجهت السعودية والإمارات بوثائق ومعطيات ومعلومات تثبت تورطهما، هما أيضاً، في دعم المجموعات الإرهابية، فيما أُلقيت في وجه أبو ظبي أرقام تبين مستوى علاقاتها بإيران (حجم التبادل التجاري نموذجاً)، وجرى تعيير الرياض لقطعها أي شكل من أشكال التواصل مع القطريين، في الوقت الذي تبقي فيه الباب موارباً أمام الإيرانيين. لذا، كان الأجدى لرباعي المقاطعة، بحسب متابعي مسار الأزمة، لو كان التركيز، فقط، على تدخل قطر في الشؤون الداخلية لجيرانها والدول الأبعد، بدلاً من الدخول في متاهات لن يسلم منها أحد.
مفارقات الحملة الإعلامية انسحبت، أيضاً، على قائمة المطالب الـ13 التي تقدمت بها دول المقاطعة إلى قطر. قائمة ألزمت تلك الدول نفسها، من خلالها، بمجموعة واسعة من الاشتراطات السياسية العامة والاستراتيجية، عوضاً عن التقدم بمطالب أكثر تحديداً وانسجاماً مع المنطق وقابلية للتطبيق. ولعل ذلك التعجل في التقدير هو الذي أتى بمفاعيل عكسية لقائمة الـ13، بعدما كانت الرياض وأبو ظبي تأملان أنهما ستدفعان، عبر سقفها المرتفع جداً، الدوحة، إلى الرضوخ والاستسلام. لكن، على العكس مما أراده السعوديون والإماراتيون، لقيت مضامين قائمتهم رفضاً من غير دولة في الإقليم والعالم اعتبرتها تجاوزاً للمعقول. حتى إن الأميركيين أنفسهم، الذين لم يتخلوا عن المراوغة لحظة واحدة، رأوا أن المطالب الـ13 «لم تكن قابلة للتطبيق، على الأقل كحزمة واحدة»، ولم يأت مبعوثاهم، الجنرال المتقاعد، أنتوني زيني، ونائب مساعد وزير الخارجية لشؤون دول الخليج، تيم ليندركينج، إلى المنطقة، أخيراً، إلا لجس نبض السعودية والإمارات إزاء إمكانية التخلي عن القائمة، والبحث في المبادئ الستة التي أعلنها اجتماع القاهرة.

أثبتت عواصم «الرباعي» خفة
ونزقاً لا يضاهَيان


في خضم ذلك التخبط، بدا أن «النجاح» الوحيد لدول المقاطعة في إدارة الأزمة، إعلامياً، هو بروز «ظاهرة» أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، الذي يتخذ من موقع «تويتر» منبراً دائماً له. «نجاح» ليس مرده ميزات استثنائية في السياسي والأكاديمي المولود في دبي عام 1959، بل حضوره المكثف على الشبكة العنكبوتية، والذي أسهم في إبقاء الأزمة متقدمة في الأجندة الإخبارية، على الرغم من الفتور الذي ضربها أخيراً، وجعل الجانب القطري في حالة تأهب يومي للرد على الإلحاح على شعارات ومرسَلات من قبيل: «على الشقيق أن يختار محيطه، أن يدرك أن صخب الإعلام وبطولات الآيديولوجيا وهم زائل»... إلخ.
وإلى جانب قرقاش، برز، على المستوى الدبلوماسي، نجم السفير الإماراتي لدى واشنطن، يوسف العتيبة، الذي لعب دوراً رئيساً في بناء صورة «قاتمة» عن إمارة قطر لدى الدوائر الفاعلة وأصحاب القرار في الولايات المتحدة، بحسب ما أكدت عينة من الرسائل الإلكترونية المقرصنة من حساب العتيبة. واللافت أن الدبلوماسي الشاب، المتخرج من جامعة الدفاع الوطني الأميركية، والموصوف بأنه «يتحرك بسرعة للغاية، وبعنف للغاية، وبأموال كثيرة للغاية»، يعمل للتأصيل النظري للخلاف مع الدوحة، ساعياً في الترويج لكون الأخير «خلافاً فلسفياً أكثر منه دبلوماسياً»؛ إذ إن «ما نريد أن نراه هو حكومات علمانية مستقرة مزدهرة وقوية»، خلافاً لما «أعتقد أن قطر تريد أن تراه». وبالنظر إلى تماهي الرجل مع الثقافة والسياسة الأميركيتين، ونفوذه الواسع داخل البيت الأبيض والكونغرس ووسائل الإعلام ومراكز الدراسات (يقال، في هذا الإطار، إن من أعظم الشخصيات التي استطاع عتيبة الوصول إليها، وفرض نفوذه عليها في بعض الأحيان، هو الجنرال أنتوني زيني، مبعوث تيلرسون الحالي إلى الخليج)، يُتوقع أن يكون لتحركات العتيبة صدى لدى واشنطن، إلا أن توقعاً من هذا النوع ينبغي أن يأخذ بالاعتبار دخول قطر على الخط، وتعاقدها مع شركات علاقات عامة إضافية.
نمط العلاقات العامة التي يبنيها العتيبة تجلّي مُحدّداً آخر لعله الأكثر إثارة للانتباه، لكونه يتصل بالأواصر السعودية الإماراتية. يقول العتيبة، بحسب تسريبات حديثة، في رسالة متبادلة مع مسؤول أميركي سابق هو إليوت أبرامز: «أعتقد أننا على المدى الطويل قد يكون لنا تأثير جيد على السعودية، على الأقل مع بعض الناس هناك». ويضيف أن «علاقتنا معهم تستند إلى عمق استراتيجي ومصالح مشتركة، والأهم من ذلك هو الأمل في أن نتمكن من التأثير عليهم، وليس العكس». تأثير يبدو واضحاً أن أبوظبي تسعى إلى ممارسته على نطاق أوسع، انطلاقاً من مضمار الأزمة الخليجية، الذي ظهر أن لـ«أولاد زايد» فيه الكلمة الأعلى.
هذه الكلمة هي عينها التي أسهمت في دفع محمد بن سلمان إلى سدة ولي العهد، باستغلال الصخب الخليجي لتوجيه ضربة قاصمة إلى الرجل الذي كانت قطر تراهن على «عقلانيته» لفرملة قطار الأزمة. بذلك، تمكن «المحمدان» من تحقيق هدفين اثنين: تمرير قرار إطاحة محمد بن نايف بأقل قدر من الخسائر، وكسر مراهنة الدوحة على أصوات مغايرة لتحالف ابن سلمان - ابن زايد.
إلى جانب تلك الأهداف السياسية التي تحققت أو هي في طور التحقق، تأمل دول المقاطعة، وفي مقدمها السعودية والإمارات، أن ينعكس «الحصار» تقليصاً لتمويل قطر لأنشطتها السياسية والعسكرية العابرة للحدود. آمال لا يبدو أنها بعيدة من الواقع، ولا سيما أن التقديرات العالمية تشير إلى أن علامات إجهاد بدأت تظهر على اقتصاد الإمارة. فبحسب تحليل لوكالة «بلومبرغ»، أصبحت الاحتياطات المالية القطرية في أدنى مستوياتها منذ أيار 2012، نتيجة قيام مصارف وواجهات استثمارية بسحب أموالها من قطر، واستخدام الأخيرة احتياطاتها لدعم العملة المحلية. وإذا كانت قطر، التي تضم ثالث أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم، قادرة «على الوقوف في وجه العقوبات الاقتصادية لسنوات»، بحسب خبراء ماليين، إلا أن قدرتها على تموين الجماعات المحسوبة عليها في غير بلد (اليمن، ليبيا، سوريا...) تظهر على المحك، إن لم تكن قد بدأت بالتراجع فعلاً، وما الأنباء عن قيام قطر بتقليص تمويلها لـ«الائتلاف السوري» المعارض إلا نموذج لما يمكن أن تشهده المرحلة المقبلة.