23 سنة مرت على آخر خطة نهوض تربوي وضعت في أيار 1994 (والخطة تعني الأهداف العامة للمناهج التعليمية)، والتوجيه العلمي والمهني بقي أسير النصوص ولم يتحرّر مادة تعليمية في المناهج الأخيرة الصادرة في عام 1997. فقد جاء في الفقرة (ن) من الأهداف التربوية العامة للخطة: «تتركز الأهداف على تكوين المواطن القادر، من خلال العملية التربوية، والإرشاد والتوجيه، على الاختيار الحر لمهنة المستقبل والارتقاء بها عن طريق التعلم الذاتي وغيره من الوسائل».
إلاّ أنّ مرسوم المناهج لم يلحق بقرارات وزارية لتفعيله ولم يتحول التوجيه المهني مشروعاً أولياً في السياسة العامة لوزارة التربية، إنما لزّمت المهمة لمؤسسات خاصة توّجه، على ندرتها، تلامذة المرحلة الثانوية للتعرف إلى أنواع الاختصاصات الجامعية من جهة، واكتشاف ما ينسجم مع رغباتهم وميولهم تجاه هذا الاختصاص أو ذاك من جهة ثانية. جمعية المركز الإسلامي للتوجيه والتعليم العالي هي أحد المبادرات الأساسية التي تأسست خلال عام 1994 بهدف إعطاء التوجيهات وتعريف الطلاب الثانويين باختصاصات التعليم العالي وفروعه وأقسامه، لكن الجمعية لم تلبث أن طورت تجربتها بوضع برنامج توجيهي منذ عام 2008، يساعد الطلاب في تطوير معرفتهم في عالم الاختصاصات والمهن وإدراك العلاقة القائمة بين المراحل الدراسية وخياراتهم التخصصية، وتطوير رؤيتهم حول مفهوم العمل وكيفية الاستعداد لهذا الاستحقاق. البرنامج لم تتلقفه حتى الآن سوى جمعية التعليم الديني ـ مدارس المصطفى، المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم ـ مدارس المهدي، وعدد محدود من المدارس الخاصة.

المركز التربوي يقيم البرنامج

البرنامج خضع في عام 2015 لتقييم من المركز التربوي للبحوث والإنماء الذي رأى أنّه «يلبي حاجات المتعلمين لا سيما أنّ المدرسة الرسمية تفتقر إلى برامج مماثلة، ويمكن إدخال البرنامج إليها بعد إجراء تعديلات تتعلق بالتشديد على البعد الموضوعي في الكتيبات المعتمدة في البرنامج بحيث لا تظهر فيها الصبغة الدينية أو المذهبية». وقد يكون من المجدي، بحسب المركز التربوي، التنسيق بين القيمين على برنامج التدريب المهني من جهة ومديرية الإرشاد والتوجيه في وزارة التربية ومكتب الإعداد والتدريب في المركز التربوي من جهة ثانية، لتدريب المعلمين على تطبيق برنامج التوجيه المهني في الحصص الدراسية في كل المواد التعليمية، فيصبح التوجيه وأنشطته ومضمونه جزءاً لا يتجزأ من المواد، بحيث لا ينعكس وقت تطبيق البرنامج سلباً على الحصص ويمكن التحكم أكثر بمضمون مادة التوجيه. لكن هذا التوجه لم يأخذ مساره إلى التطبيق بعد. والسبب؟ يقول المدير العام للجمعية علي زلزلة إن الأمر مرتبط بتعديل المناهج الذي لم يحصل، إضافة إلى أن المركز التربوي يهتم بتدريب معلميه ليدربوا التلامذة ما يفقد البرنامج تخصصيته. وهو يقترح أن يجري اعتماد علامة للتوجيه كجزء من علامة مادة التربية إذا ما حصل تطوير للمناهج.

ما هو برنامج التوجيه المهني؟

منهج التوجيه المهني وضع، كما يقول زلزلة، ليكون مادة تدريبية تعليمية في المدارس ابتداءً من الصف التاسع الأساسي (البريفيه) وحتى الثالث الثانوي. انقسم البرنامج التوجيهي إلى أربعة أجزاء، يمكن اعتبارها سلسلة مترابطة وتراكمية، ما يجعل كل جزء هو معرفة بذاتها ومقدمة للأجزاء الآتية. وقد أخذ البرنامج بعده التسلسلي المنهجي وفقاً لأعمار التلامذة وصفوفهم الدراسية. ففي صف البريفيه، يتعرف الطالب إلى المسارات التعليمية والميول، وكيفية ربطها بالمرحلة الثانوية، ويجري حثه على التفوق، كذلك يتعرف إلى مسارات التعلم الجامعية والمهنية وشروط كل مرحلة على مستوى الميول والقدرات.
ووفق نظرية الباحث الأميركي هوارد غاردنر: ليس هناك تلميذ فاشل بل لكل تلميذ ذكاؤه الخاص، يكتشف الطالب في الثانوي الأول المشارك في البرنامج الذكاءات المتعددة لديه ويربطها بالمسار التعليمي من جهة، بحيث يكتشف اتجاهاته وما إذا كان يريد اختيار العلوم الإنسانية أو العلوم التجريبية، وبأنواع المهن والاختصاصات المختلفة من جهة ثانية. يطلع هنا أيضاً على آليات اتخاذ القرار المهني بطريقة علمية وفق ما اكتسبه من معارف وربطها بالقدرات العلمية.

معايشة المهنة جزء أساسي من اختيار الاختصاص الجامعي


في الصف الثاني الثانوي، يصبح الطالب قادراً على التعرف إلى الشخصية المهنية والقطاعات الجامعية ويتعرف أيضاً إلى أخلاقيات المهن والشروط الخاصة بسوق العمل. في هذا الصف يدعى الطلاب لزيارة المعرض التوجيهي السنوي الذي تنظمه الجمعية ليتعايش مع الجامعات والمهن.
أما في الصف الثالث الثانوي، فيكتشف ميوله وذكاءاته وشخصيته المهنية والبيئة المهنية المناسبة لشخصيته. ويخضع هنا لاختبار قياس أنماط الشخصية (MBTI)، إضافة إلى تعريفه بالتغيرات والتحولات العمرية للنفس والذهن، وإدخال الحياة الجامعية والاتجاهات الحالية لسوق العمل إلى مفاهيمه.
من مميزات البرنامج، بحسب زلزلة، البعد التراكمي في صقل ذات الطالب في معرفة شخصيته واتخاذ القرار بناء على معطيات واضحة، «وهذا ما كنا نلمسه باللقاءات مع طلاب المرحلة الثانوية، فكانت تساؤلاتهم دقيقة ومفصلة، ما يدل على تشكل الوعي المهني لديهم، من حيث معرفة الذات والمعلومات عن الجامعات والاختصاصات بحيث كنا نسمع تفاصيل دقيقة».
ومن البديهي أن هذا المنهج يحتاج إلى ساعات من أجل حسن التطبيق، فكان الحد الأدنى، وفق زلزلي، هو تسع ساعات مع القابلية الكاملة لأن يكون سنوياً، وعلى الرغم من أنّ عدد الساعات المتاح في المدارس غير كافٍ، إضافة إلى عدم إدراجه في البرنامج المدرسي، «إلا أن التقويم الذي نجريه يحفّزنا دوماً على المضي قدماً»، على حد تعبيره.

93.2 % راضون عن اختصاصهم

وكي لا يكون التطبيق عشوائياً، تجري الجمعية تقييماً سنوياً لقياس أثر هذا البرنامج على معارف وخيارات الطلاب التخصصية بعد دخولهم المرحلة الجامعية وتجربة سوق العمل، وذلك في المؤسسات التي تتعاون معها، من أجل معرفة مدى الاستفادة الفعلية والعملية التي وفرها البرنامج للطلاب. إلا أن ما فعلته أخيراً هو دراسة لأثر البرنامج التوجيهي على عينة عشوائية من 250 مستفيداً بعد مضي ثلاث سنوات من خضوعهم للبرنامج.
وقد اختارت مجموعة المتخرجين وفق ثلاث تطبيقات مختلفة لبرنامج التوجيه: برنامج متكامل (يُطبق من صف التاسع حتى الثالث ثانوي) ومعتمد لدى طلاب جمعية التعليم الديني الإسلامي، برنامج محدد للمرحلة الثانوية (يُطبق ضمن صفوف الأول، الثاني، الثالث الثانوي) ومعتمد لدى طلاب المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم، وبرنامج الورش التوجيهية (يُطبق ضمن صفوف الثاني أو الثالث الثانوي) ويُعتمد لدى طلاب الثانويات الرسمية والخاصة التي تتعاون مع المركز.
وأظهرت الدراسة أنّ البرنامج حقق أهدافه على مستوى المعارف التوجيهية، إلا أن المعارف على مستوى تفاصيل المهن من بيئة العمل ومعرفة سوق العمل كانت الأدنى، وذلك بسبب نقص في الدراسات لسوق العمل، إضافة إلى النقص في معايشة المهن من قبل الطلاب. يذكر أن المركز يعرض للطلاب فيديوهات عن المهن ليتمكنوا من معايشتها على الأرض.
وتبين أن البرنامج ساهم في اختبار الشخصية المهنية ومدى توافقها مع خيارات الطالب لا سيما أنها توافقت إلى حد ما مع الرضا على الاختصاص ( 93.2%).
وقد أضاف عدد من الطلاب الخاضعين للدراسة مجموعة من الملاحظات كان أبرزها: أن البرنامج يحتاج إلى وقت أكثر وتعمق في الشرح لا سيما في مجال الاختصاصات والمهن، إضافة إلى ضرورة حث الطالب وتشجيعه كي لا يتردد في اختيار الاختصاص الناتج عن الاختبارات والبرنامج. مع ملاحظة أفادت بأنها لم تحقق الاستفادة الفعلية من البرنامج حتى زارت المركز وخضعت لمقابلة فردية. ومن الملاحظ أن عدداً من التبريرات غير مرتبط بطبيعة البرنامج وهو يشير إلى أسباب مختلفة لاختيار الاختصاص من قبيل تغيير الاختصاص أو ظروف خاصة أو بعد الجامعة، وإذا ربطت الأسباب المتعلقة مباشرة بالبرنامج فنحصل على نسبة 12% من الطلاب اعتبرت لسبب ما أنها لم تستفد من البرنامج.



* للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]