ينطلق اليمني أحمد الصيّاد في كل عمل روائي جديد له من قاعدة الحياة السياسية التي سارت حياته كثيراً على طرقاتها وزواريبها. لا بد من واقعة سياسية كي يمضي في كتابة رواية. وهذا إلى الحدّ الذي لا نعد فيه نُفرّق بين النص الروائي والوثيقة التاريخية أو الشهادة التي يدونها شخص حضر الوقائع وعاصرها وكان شاهداً عليها. هكذا يبدو الاستناد، في كل مرة، إلى واقعة بعينها كي يذهب في تكوين عمله السردي معتمداً، في أحايين كثيرة، على شخصيات مأخوذة من الواقع السياسي إياه، وإن جاءت مموهة قليلاً وبأسماء مُستعارة. سنجد الصيّاد على هذه الحالة في باكورته الروائية «آخر القرامطة» (2004) التي حاول فيها مقاربة واقعة استشهاد رفيقه اليساري اليمني البارز جار الله عُمر الذي اغتاله طالب مُتطرف كان ينتمي إلى جامعة «الإيمان» التي يديرها رجل الدين الأصولي عبد المجيد الزنداني، أحد أبرز قادة الإخوان المسلمين (الفرع اليمني). وسيذهب عمله التالي «اليمن وفصول الجحيم» (2010) ـ الذي لم نعرف إن كان رواية أو سرداً في التاريخ - باتجاه واقعة «أحداث 13 يناير» في الجنوب اليمني، وهي واحدة من «عشرة أحداث هزّت العالم».

من هنا جاءت تلك المقاربة التاريخية في صفحاتها على نحو مال بالرواية صوب كتابة تاريخية توثيقية، وإن أتت ظاهرياً في قالب سردي احتوى على شكل تقريبي يشير إلى أسباب ظهوره على قالب روائي.
وها هو الديبلوماسي، اليساري القديم ـ الباقي على يساريته ــ الذي يشغل حالياً منصب مندوب اليمن في منظمة اليونيسكو، يعود ليقدم عملاً جديداً هو «درويش صنعاء» (الدار العربية للعلوم ناشرون - بيروت)، ناهلاً من التاريخ، ومشتغلاً عليه. هذه المرة، يقارب واقعة «السبعين» أو «ملحمة السبعين» بحسب التسمية المتداولة عنها عند أنصار «الجمهورية العربية اليمنية» سابقاً. يومها، وقف أبطالها في مواجهة المدّ الملكي ومن يستند خلفه من جماعة الإمامة المدعومة وقتها من مال آل سعود. رفع الثوّار وأهل المقاومة شعار «الجمهورية أو الموت»، رافضين عودة الملكية على نحو قاطع، وقد كانوا جميعهم من مختلف المناطق اليمنية شمالاً وجنوباً. كان ذلك في الفترة الواقعة بين 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 والثامن من شباط (فبراير) 1968.

يضيء على «ملحمة السبعين» حين رفع الثوّار شعار «الجمهورية أو الموت»

منذ البداية، يسعى كاتب «اليسار اليمني، ظالم أم مظلوم» (2013) لتثبيت تنويه افتتاحي يدعو فيه القارئ إلى صبّ تركيزه على الفارق بين «الخيال والحقيقة». ليس هناك غير ذلك القارئ الذي سيقدر وحده «معرفة الحقيقة واكتشاف الخيال» في قلب الكتابة القادمة والمقيمة في قلب أوراق كل ذلك السرد التالي.
هكذا سنجد في «درويش صنعاء» برهان المولود في فاس المغربية. تركها سريعاً ليعيش زمناً ليس بالقليل في تركيا حيث تعلّم وعرف ما لم يكن يعرفه. ثم كانت اليمن وجهته مطيعاً لقول والدته التي أدلت، في أذنيه، معترفة بخبر يشير إلى أصوله اليمنية. «وها أنا اليوم في صنعاء بحثاً عن الله وحباً فيه» يقول الدرويش للشخصية الأولى التي سيلاقيها أثناء صلاة الليل قبل أن يقفل المسجد أبوابه. ومن هذه الشخصية الافتتاحية «حنتش»، سنجد نبرة الراوي واقفة إلى جوار أهل المقاومة الجمهوريين وفي مواجهة الجماعة المنادية ببقاء الملكية على حالها. وعبر «حنتش»، سنجد النظرة التي عمل أهل النظام الملكي على تعميمها بخصوص أهل المقاومة: «هؤلاء الجنود أوغاد. إنهم شيوعيون وملحدون، دخيلون على مدينتنا وعاداتنا وتقاليدنا. يسترقون أحاديثنا، ويحرقون نساءنا بنظراتهم الماجنة... يحاربون من طاعته واجبة وولايته ثابتة». إنها هنا الواجهة الدعائية نفسها التي بثها الجهاز الدعائي الإمامي بين الناس لمواجهة الثورة الأولى التي قامت ضده عام 1948. نشر خلالها بين عامّة الناس أن هؤلاء الثوّار هم جماعة من الملحدين الراغبين في تغيير آيات القرآن، وقد كانت حيلة ناجعة أسهمت في وأد الثورة في مهدها.
لن يطول الوقت بالدرويش حتى ينتقل إلى جهة المقاومة. سيدخل «بيت الجمهورية» حيث يقيم شباب أتوا من كافة أنحاء البلاد رافعين شعار «الجمهورية أو الموت». وعلى هذه الحال، سيذهب السرد لمصلحة جهة ضد أخرى. يظهر صوت صاحب الرواية واضحاً حين يقوم بتأكيد وقائع بعينها وستأتي مكتوبة بعين قد شهدت الوقائع، لا من اعتمد على السمع في تدوينها. هكذا سيكون الباب مفتوحاً لدخول نبرة خطابية أسهمت في سحب مستوى السرد إلى خطابية فاقعة، لا تناسب الحالة الروائية، بل تحصرها في عمل توثيقي لا لبس فيه. حديث عن الطائفية والمناطقية التي حلّت بالجمهوريين بعد انتصار فك الحصار عن صنعاء، ووقوع الثوّار تحت تأثيرها حيث «يتمّ فرز الناس حسب ثيابهم، حسب نطقهم ومناطقهم». حديث عن أضرار شجرة القات وتناولها عند الثوّار. وعبر هذه النقطة، ستتأكد مسألة عدم انتباه أحمد الصيّاد إلى أنه يذهب في خنق «درويش صنعاء» وجعلها محصورة بقارئ يمني صرف لا تعني سواه. أضف إلى كل هذا، انتشار المفردات اليمنية المحلّية دونما توضيح للمعنى المُراد منها لقارئ عربي غريب عن المحلّية اليمنية، والشمالية منها على وجه الخصوص. كذلك احتوى العمل على أسماء مناطق وجغرافيا تخص واقعة حصار صنعاء نفسها، ولا يمكن إلا لقارئ مهتم بالتاريخ اليمني الشمالي المعاصر، إدراك الإشارات التي تعنيها فيما سيبدو القارئ العادي تائهاً في زحمة تلك الأسماء المنثورة على أوراق الرواية.