كأن الزمن قد توقف خارج أبواب المقاهي البيروتية القديمة. من زارها قبل عشرات السنوات لن يلحظ تغييراً. قد لا يلحظ تغييراً، أيضاً، إذا ما زارها بعد عشرات السنوات. هذا إذا افترضنا استثناءها من «زحف الباطون» الذي غطّى المدينة. وحدهم أصحابها ومؤسسوها رحلوا، وباتوا مجرّد صور على جدرانها، فيما الكراسي والطاولات الخشبية العتيقة لا تزال على حالها، ولا يزال العزّ لـ «النَّفَس العجمي»، على حساب «المعسَّل» المنبوذ، بكوكتيلاته المختلفة.
داخل «مقهى قليلات»، في منطقة كورنيش المزرعة، تعلو أصوات الزبائن، شيبة وشباناً، مع احتدام «دقّ» الورق.
في المقهى الذي مضى على افتتاحه أكثر من نصف قرن، الحماسة لـ«التريكس» و«الليخة» و«الأربعمية» و«الأربعتعش» لا لمباريات الـ«ريال» والـ«برسا». يقول إبراهيم الخراط، وهو من قدامى روّاد المقهى، إن «الزبائن هنا يأتون من مناطق مختلفة، من بيروت والضاحية وإقليم الخروب وغيرها. قد يختلفون في الدين والسياسة وفي كل شيء، إلا أنهم جميعاً يتفقون على الأركيلة العجمية». ويردف: «عمي... العزّ للعجمي، والمعسّل شنق حالو»، مشيراً إلى أن نرجيلة المعسّل «مغضوب عليها في المقاهي القديمة، ولا تقدم إلى الزبائن لأنها تفسد نكهة أراكيل العجمي بسبب رائحتها القوية ودخّانها الكثيف».
على عكس ما تشي به اليوم، لم تكن مقاهي بيروت التي بدأت العمل في عشرينيات القرن الماضي وتكاثرت في أربعينياته مكاناً لتجمّع العاطلين من العمل و«لعّيبة السبق»، بل ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالحياة الاجتماعية والسياسية للعاصمة. في بداياتها، كانت مقصداً ترفيهياً احتكره الرجال قبل عصر التلفزيون والإنترنت، قبل أن تنقسم إلى مقاهٍ «نخبوية» تركّزت في ساحة البرج يؤمّها المثقفون والصحافيون، وأخرى شعبية في مناطق المزرعة والجميزة والبسطا وغيرها، سرعان ما تحوّلت مركز نفوذ «تُركَّب» فيها التحالفات و«الكومبينات» السياسية، وتخضع لنفوذ زعماء السياسة وقبضاياتهم ومفاتيحهم الانتخابية، كلٌّ بحسب المنطقة التي يقع فيها. فمقاهي البسطا، مثلاً، كانت تؤيد الرئيس صائب سلام وتعمل بحمايته، فيما كان «مقهى صليبا»، الذي افتتح عام 1951 في المزرعة، تحت حماية الوزير البيروتي هنري فرعون الذي اعتاد زيارته مع النائب الراحل نسيم مجدلاني، خصوصاً في مواسم الانتخابات... واعتمد البعض سياسة «مع الواقف»، فإذا ربح النائب بقيت صورته معلّقة على الحائط. وفي حال خسارته سرعان ما كانت تنزع لتعلق صورة النائب الجديد مكانها!
عام 1951، افتتح ميشال صليبا مقهاه في منطقة المزرعة المختلطة طائفياً. ويروي كبار السن في الحيّ أنه كان يمنع زبائنه، حتى المسيحيين، من الجلوس أمام المقهى خلال شهر رمضان، مراعاةً للصائمين. بعد وفاة ميشال، ورث أقارب له المقهى، فحافظوا على طابعه وديكوره القديم.

«سيمونيدس» من المقاهي الشعبية القليلة التي كانت تسمح بالاختلاط

وهو يبدو اليوم أشبه ما يكون بدار للعجزة بسبب الحضور الطاغي لكبار السنّ فيه. وتعود علاقة هؤلاء بالمقهى، وبعضهم تجاوز الثمانين، إلى عشرات السنوات، بعدما تحوّلت زيارته طقساً يومياً بالنسبة إلى بعضهم. والأمر عينه ينطبق على مقهى إيليا سيمونيدس قبالة مدخل شارع مار الياس. يروي بسام كلثوم، الذي يعمل في المقهى منذ 25 عاماً، أن المعلم إيليا ذا الأصول اليونانية افتتح المقهى قبل 50 عاماً، وتوفي قبل سنوات. ويجزم بأن «سيمونيدس» من المقاهي الشعبية القليلة التي كانت تسمح بالاختلاط، «وحتى اليوم لا تزال بعض السيدات يأتين لزيارتنا». يحنّ كلثوم إلى الزمن الجميل عندما كان يستقبل وزراء وقضاة وشخصيات بارزة، ويشكو تغير معاملة الزبائن وتراجع الأحوال الاقتصادية: «ما كنا نجنيه في أسبوع لم نعد نؤمنه في شهر»، فيردّ أحد الزبائن ممازحاً: «وقّف نق يا بسام. نحنا منجي لهون لنهرب من نق نسواننا»!
عام 1998 أعاد محمد سعيدون افتتاح مقهى عبد الحفيظ العانوتي العريق في منطقة عائشة بكار، وسمّاه «مقهى المستقبل» تقرّباً من الرئيس رفيق الحريري. حافظ سعيدون على الطراز القديم للمقهى، وزيّنه بصور قديمة لأجداده. «أعجبت الفكرة سكان المنطقة، فصار كل منهم يحضر صورة أبيه أو جده». اليوم، جدران المقهى أشبه بمعرض توثيقي لتاريخ بيروت، إذ تزينها أكثر من 300 صورة لشخصيات بيروتية مشهورة ومغمورة.




أسد في «مقهى قليلات»

لإبراهيم الخراط، أحد قدامى رواد «مقهى قليلات»، ذكريات لا تنضب عن «الزمن الجميل» للمقاهي البيروتية، إذ إن «القهوة كانت المكان الذي يفد إليه زعماء الأحياء والقبضايات لحل خلافاتهم. فإذا حلّ الخلاف شرب المتخاصمون قهوة الصلحة، أما إذا احتدّت المشكلة وتفاقم الخلاف، فكان صاحب القهوة غالباً يدفع الثمن بتكسير الطاولات والكراسي».
وأطرف ما يرويه الخراط، يعود إلى السبعينيات، عندما جاءت فرقة سيرك أجنبية لإقامة عروض في المدينة الرياضية. «يومها هرب أسد ضخم من أحد الأقفاص. وفيما كنت مع أصدقاء في المقهى، فوجئنا بالأسد الهارب يقف قبالة الباب. يومها عمّ الذعر في القهوة وبدأ الزبائن بالقفز فوق الطاولات متسابقين للهرب من الباب الخلفي. غير أن الأسد لم يعبّرنا، إذ وقف يتفرج علينا قبل أن يغادر بهدوء»!