ابتزاز السلطة السياسية للجامعة اللبنانية ليس جديداً. النكسة الأولى كانت في الحرب الأهلية حين توزعت المؤسسة الوطنية على فروع تبعاً لخريطة الانقسام السياسي والطائفي. النكسة الثانية كانت صدور قرار مجلس الوزراء الرقم 42 بتاريخ 29/3/1997 الذي صادر صلاحيات الجامعة الأكاديمية والمالية والإدارية وعرقل مسيرتها. القرار نسف استقلالية الجامعة المنصوص عنها في قانون تنظيمها الرقم 57 بتاريخ 26/12/1967 والمعدل بالقانون الرقم 66 بتاريخ 4/3/2009.
قبل ذلك، كانت الجامعة تدار باعتبارات أكاديمية بحتة، ولم تكن قاعدة المناصفة قائمة في التعاقد والتفرغ وتعيينات العمداء والمديرين. النكسة الثالثة، وربما الضربة القاضية، كانت بين عامي 2004 و2014 حين عطّلت السلطة نفسها مجلس الجامعة ومنعت تشكيله لتصادر ما بقي من صلاحيات رئاستها ومجالسها التمثيلية وكلياتها، لمصلحة منطق التحاصص الطائفي والمذهبي، والمغلّف بشعار «التوازن الوطني». كل ذلك حصل في ظل منح التراخيص لجامعات خاصة، وبينها بضع دكاكين أو «امتيازات جامعية» غب البيع والطلب.

«أهل» الجامعة داخل اللعبة

لكن منذ مصادرة مجلس الوزراء لصلاحيات الجامعة بناءً على طلب أحد رؤسائها بحجة الضغوط السياسية عليه وحتى اليوم، يشارك «أهل» الجامعة في اللعبة ولا يتوانون عن الذهاب إلى السياسيين لأخذ مباركتهم أو مطالبتهم بالتدخل لحماية حصتهم، بدلاً من التصدي لعبث هؤلاء بمقدرات الجامعة. وهذا الأمر لم يكن حكراً على طرف دون آخر، وأتى على حساب تطبيق القوانين وترجمة الاستقلالية المالية والإدارية والأكاديمية، وترسيخ دور الأستاذ ـ الباحث ومنع تحوله إلى موظف، وتثبيت الهيكلية الإدارية، وتحديد الملاكات التعليمية وتعزيز الأبحاث العلمية.
«الحملة» في الجامعة من الأحزاب السياسية ومن «أهل» الجامعة، التي أشعل شرارتَها الاعتراضُ على تعيين مدير سُني بدلاً من مسيحي للفرع الرابع في معهد العلوم الاجتماعية في زحلة، هي بالذات وليدة هذه الظروف. وهي ليست بالمناسبة حادثة فريدة من نوعها، فعمادات وإدارات الكليات والفروع مطوّبة للطوائف، ومشهد الإقفال القسري للفرع الثالث لكلية الإدارة الأعمال والعلوم الاقتصادية في طرابلس في شباط 2015 لمدة تتجاوز 5 أسابيع، احتجاجاً على تعيين مدير مسيحي بدلاً من سُني لا يزال ماثلاً أمامنا. يومها، عاد رئيس الجامعة السابق عن قراره نتيجة الاحتجاجات، ولا شيء يمنع تكرار هذه الحادثة في أي لحظة.

أسباب خفية للحملة؟

هذه المرة «كبرت كتير»، ووضع بعض الأكاديميين أنفسهم في تصرف السياسيين ورؤساء الأحزاب، ولم يتردد أحد الأساتذة، وهو معروف بعلمانيته، في القول إنه استُدعي على عجل لمعالجة الخلل. يرى عميد كلية الهندسة رفيق يونس أن الجامعة راعت التوازن بشكل كلي وليس عبر حجز مركز بعينه لطائفة معينة.

المسألة تتجاوز
التوازن المتفق
عليه إلى تكريس طائفية العمادة
ويؤكد أنّه تكفي لمعالجة هذه الأمور الإشارة إلى الموضوع داخل مؤسسات الجامعة للتصويب تعيينات مقبلة وعدم الاستثمار الطائفي الذي لا يخدم أحداً. ويذكر العميد يونس بأنّه هذا ما حصل في تعيينات أخرى لا سيما حين عيّن رئيس الجامعة فؤاد أيوب الدكتور طوني زينون عميداً بالتكليف لكلية طب الأسنان، وهو موقع محسوب للمسلمين. من هنا يستبعد أن يكون حجم القضية أكاديمياً أومهنياً لأن رئيس الجامعة لم يرتكب أي خطأ مهني في هذا المجال، فثمة خلاف ما، خفي بالسياسة، لا نعرفه تدفع ثمنه الجامعة تماماً كما يدفع الجيش اللبناني ثمن الخلافات السياسية. وفي احتفال تخريج طلاب كلية طب الأسنان، قال أيوب: « تعزيز الجامعة اللبنانية يكون بوحدتها ووحدة أهلها وإدارتها ومناهجها، ولن تستطيع تلك الأصوات الجوفاء تغيير هذه الحقيقة التي تسعى إلى تبديلها بعض الأبواق الجاهدة لإضعاف مستواها أو النيل من كفاءة أهلها».

تكريس طائفية الفروع

الخطير في ما يحدث، بحسب عميد كلية الإعلام جورج صدقة، أن المسألة باتت تتجاوز «التوازن المتفق عليه والذي لا نعارضه» إلى تكريس طائفية العمادة أو الإدارة في كلية محددة وفي منطقة معينة، بمعنى أن هناك 50 مديراً، ويمكن حفظ هذا التوازن في فرع آخر، باعتماد نظام المداورة المطبق في الجامعة. يدرج صدقة «الشوشرة» الحاصلة في إطار حملة مغرضة ضد الجامعة «وكبروها أكثر مما تستحق»، مشيراً إلى أن قرار تعيين المدير الجديد للمعهد في زحلة كان صائباً لجهة استيفاء الشروط القانونية والأكاديمية. أما وضع قانون جديد وعصري للجامعة للتخفيف من البيروقراطية والمركزية، فهو مطلب للجميع، كما يقول صدقة، ولكن يجب أن ينطلق من رؤية وطنية، وليس من خدمة الأحزاب، ويجب أن يراعي تحدي المنافسة مع الجامعات الخاصة.

«مضبطة» بالتجاوزات الفئوية

يرفض الفريق المعترض، كما قال أنصاره، التكلم بعبارات طائفية، «فالجامعة جامعتنا ونغار عليها، لكننا نسأل بأي هدف يجري إيلاء معظم المواقع في الجامعة للون واحد؟». ويشير إلى أنّه أعد ما سماه «مضبطة» بالتجاوزات: استبدال منصب رئاسة مكتب العلاقات الخارجية (مسيحي) وتعيين 6 منسقين بدلاً منه، استبدال رئيسة قسم المعلوماتية بلجنة تقوم بدورها، تعيين مديرة من الطائفة السنية للفرع الفرنسي في كلية الحقوق خلفاً للمدير المسيحي، تعيين مدير سني لمعهد العلوم الاجتماعية في زحلة بدلاً من مسيحي، الإصرار على استبدال منسق مكتب اللغات، وهو مسيحي، بثلاثة منسقين، قضم المواقع المسيحية بموظفي الفئتين الثانية والثالثة: 12 رئيس دائرة من الطائفة المسلمة و6 رؤساء من الطائفة المسيحية، والرفض السياسي لتعيين المحتسبة فيرونيك عيسى خير دليل (يذكر أن مجلس الجامعة عيّن عيسى محتسبة عامة في جلسته الأخيرة)، وهناك 49 عميداً: 19 مسيحيون و30 مسلماً.
عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية كميل حبيب، يقول: «لا يمكن أن نكون في ظل التركيبة الموجودة إلا مع التوازن والمناصفة إلى أبعد الحدود، وهذا مطلب وطني وليس مطلباً طائفياً، والمطلوب تصويب الخلل في الجامعة في هذا الاتجاه، وما فعلناه كعمداء مسيحيين هو المطالبة بحقوقنا التي شعرنا بتهميشها ولجأنا إلى السياسيين لحمايتها تماماً كما فعل غيرنا حين انسحبوا من مجلس الجامعة واحتجوا لدى الرئيس سعد الحريري على تعيين مسيحي محتسباً عاماً، ما أعطى رسالة خاطئة لباقي المكونات». برأيه، الإصلاح يبدأ بتطبيق اللامركزية الإدارية، ونحن نأسف أن تعكس الجامعة، التي تضع الأسس للمواطنة، المجتمع بدلاً من أن تنعكس عليه.
جورج قزي، رئيس مجلس المندوبين في رابطة الأساتذة المتفرغين، يرى أنّ موقع الجامعة اللبنانية المتقدم بين أفضل الجامعات في لبنان مهدد بسبب واقع إداري وتنظيمي ومالي يجعل منها مركز نفوذ لفئات لبنانية، ما يسبب خللاً في التوازن الذي قامت عليه الجامعة أساساً. يقول: «الكفاءة والتوازن هما المعياران الكفيلان بالحفاظ على كيان الجامعة ووحدتها، وقد صدرت قرارات وحصلت ممارسات وتجاوزات فئوية جعلت المسيحيين يشعرون بالغبن والقلق على مصير الجامعة. المطلوب الآن هو التصحيح الفوري لكل أنواع الخلل وخرق الأعراف والكيل بمكيالين، ووضع رؤية مستقبلية تترجم بقانون جديد يفي بمتطلبات المجتمع اللبناني التعددي ويتلاءم مع المركزية الإدارية والإنماء المتوازن كي تبقى جامعة لكل اللبنانيين».
رغم كل شيء، لا تزال الجامعة اللبنانية ماضية في توفير التعليم العالي لأكثر من 40% من طلاب لبنان الجامعيين.

* للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]