في مجموعة «العابرون» (دار الإبداع) لناتالي الخوري غريب، تتبلور منظومةٌ من الأفكار الاجتماعية والفلسفية الوجودية العميقة التي تصوغها في قالبٍ أدبي مشوّق تبدو من خلاله خصوبة الخيال مُجيرةً لصالح العقل الذي يؤطّرها، ويُحكم قيادتها. لعلّ القصة الأكثر تمثيلاً لهذا هي قصة «الغريبان»، حيث شخصية العرافة تأتي كمدركة واعية ترى سرّ الوجود الكامن في الحركية لا في الجمود، في الحب والفن شريطة ألّا يغتال الحبّ الحرية. ضمن السياق السردي القائم على لعبة البحث عن الحبيبة (الراعية) والحبيب (العازف)، سنقع على ثنائية السجن/ الحرية، الجديد/ القديم، الماضي/ الحاضر، الجهل/ المعرفة، الوعي/ واللاوعي.
تتحرك الكاتبة والأكاديمية اللبنانية عبر خيوطها الدقيقة لتغزل حبكتها السردية بجمل حكائية رشيقة تتلاءم مع هذا التقابل بين الاجتماعي والفلسفي، كما بين الخارجي والداخلي.
هنا يصبح التمرد على الجد تمرّداً على الموروثات اللصيقة المتحجرة، بينما يظهر رفض السياج تنكّراً للموروثات الخارجية المعيقة للحركة البشرية الحرة، وللتدفق العاطفي الإنسانيّ.

وإذا كانت القصة القصيرة مؤهلة، بحكم قصر خطابها، لتكون أكثر الأشكال الأدبية قدرة على التقاط مؤثرات حركة الواقع الاجتماعي بوتيرتها المتسارعة، وهي حركةٌ موصوفةٌ في تاريخنا العربي بالسرعة والخلخلة والانكسار، وبالكثافة والتناقض في آن، فإنّ الكاتبة تستغل هذه الإمكانيات في «قوارب الموت».
من خلال هذه القصة، نطلّ على بعض واقعنا العربي المتردي، وعلى حالة الشعوب التي تآكلتها العادات والطقوس ومشهديات كمّ الأفواه وسحق حامليها. في القصّة، تمارس غريب لعبة القفز بين محطات تاريخية مختلفة، بين الحاضر والماضي القريب انتهاءً إلى الماضي البعيد. تنطلق الكاتبة من الحاضر القاسي حيث القمع واضطهاد المفكرين والكتّاب إلى التاريخ المعروف، إذ يتكسر زمن القصّ بحدّة بين الواقع الذي تحياه البطلة والواقع الذي عاشه والدها، وتتبدّى ذريعة البحث عنه وركوب القارب مع الراكبين - الجماهير التي تشاركها ألم الواقع المأزوم- لتصبح هذه الذريعة وسيلة الكاتبة للقول ولهذا التكسر الزمني، فاتحةً بهذا التكسّر زمن القص الحاضر على ماضٍ له محققةً رغبتها في إسقاط المسافة بين الزمنين، لصالح التماثل القائم بينهما من دون أن تفسد على القارئ متعة القراءة الفنيّة في قصتها.

بحث حقيقيّ عن التوازن الإنساني الممزق في شرقنا
أمّا في «عودة الإبنة الضالة» و«كتاب الناسك»، فهناك ملامح صوفية واضحة ودعوة حقيقية للتفكر في الحِكم والمقدرة الإلهية وما يتجاوز التديّن السطحي إلى جوهر الإيمان. ورغم أنّ في هاتين الأقصوصتين ما يحيل إلى اللاهوت المسيحي، إلا أنّ الحدث المحوري ومتوالياته السردية، تجعلنا نتواجه مع الهواجس البشرية عامة، ومع الأسئلة الأبدية التي لا تعرف الإجابة حول: مفهوم العدالة الإلهية، ومفهوم الخير والشرّ في السلوك البشري، والعدالة الدنيوية، وظاهرة إطلاق الأحكام المسبقة على الناس. إنها خمس أقاصيص تصوّر المجتمع المشوّه تقابله صوفيةٌ ومثالية ورغبةٌ حثيثة في الخلاص من وطأة الواقع. من خلال الخطابية التي تقطع السياق السردي أكثر من مرة، توصّف صاحبتها فجاجة الاجتماع الذي تحياه شعوبنا العربية، حيث يستحيل الحب والحرية خلاصاً وحيداً للمأزق بالنسبة لها.
تتحدّث الكاتبة عن الحبّ والحرية كتوأمين لا فكاك بينهما «الحب والحرية حبيبان أزليان لا يثمر واحدهما إلا بالآخر»، وهذا مخالفٌ لما تعلمنا في حيّزنا: لأنّنا «شعوب علّموها أنّ اللذات كامنة في جلد الذات، وأن الحبّ العظيم هو في الانسلاخ عمّن نحب».
نقرأ ونقرأ ونحن نسأل أنفسنا: هل تحاول ناتالي الخوري غريب في كتابها «العابرون» العبور من ركود الواقع وأسنه إلى مثالية الحب ودفئه، وهل تدفعنا حثيثاً إلى إعادة النظر في ثوابتنا أو على الأقل في ما تحجّر منها؟ أياً يكن، ففي هذا الكتاب بحث حقيقيّ من قِبلها عن الاستواء الإنساني وتوازن الإنسان الممزق في شرقنا، وفي أبعاده المضمرة. في كل صفحات الكتاب دعوة إلى المصالحة الحقيقية مع الحياة واتخاذ الحب ضوءاً هادياً وحيداً لابن الإنسان في سُبلها المظلمة الملتوية.