تتكئ ثريا براضعي على باب منزلها في «حارة المسيحيين» في صور. تراقب، ببهجة، حركة المارة في الحي الصغير والأزقة الضيقة المتفرعة منه نحو البحر أو في اتجاه «حارة الإسلام». أكثريتهم «غرباء عن المدينة. أجانب أوروبيون وآسيويون يتحدثون بلغات أجنبية»، كما تؤكد.
«طول النهار والليل، شنط رايحة وشنط جاية». في الحي الذي أقفلت مداخله ببوابات حديدية لمنع مرور السيارات والدراجات النارية، يجرّ السياح حقائبهم نحو الفنادق والنزل الصغيرة التي تعجّ بها الحارة. «الصيفية والعة في صور» تقول براضعي، مشيرة إلى أنها الحركة الأكبر منذ ما بعد عدوان 2006.
حالياً، هناك أربعة فنادق جاهزة لاستقبال الضيوف في مقابل ثلاثة قيد التجهيز، فضلاً عن الشقق والغرف المفروشة في بيوت الأهالي. براضعي كانت أول من فتحت بيتها للزوار وفق نظام Bed and Breakfast (منامة مع فطور). منذ نحو عشرين عاماً، تنبأت السبعينية بمستقبل سياحي واعد لمسقط رأسها.
اقتنعت بمبادرة «محمية صور الطبيعية» لإشراك المجتمع المحلي في تطوير السياحة الداخلية والتمكين الاقتصادي وخلق فرص عمل للمقيمين. الفكرة لم ترق آخرين وجدوا فيها خرقاً لخصوصيتهم. براضعي، من خلال المحمية ووزارة السياحة، عمّمت رقم هاتفها على مواقع الإنترنت وفتحت منزلها الواسع أمام ورشة التعديل. قُسِّم إلى غرف مستقلة مع مراحيضها، وأُبقي على البهو الخارجي مساحة مشتركة تجمع المضيفة مع أشخاص من حول العالم.

الكل في صور ذاهب نحو السياحة سواء باستثمارات ضخمة أو عائلية صغيرة

منذ ذلك الحين، استضاف البيت «أشكال ألوان»، لكنها، بعدما باتت خبيرة بأطباع السياح وسلوكياتهم، تجزم: «لم أعد أقبل أياً كان». تسمي جنسية معينة ترفض استقبال حامليها «لأنهم غير نظيفين».
حتى السنوات الأخيرة، كان القطاع الفندقي ينحصر بـ«نزل الفنار» وبعض الشقق والغرف المفروشة. على نحو تدريجي، بدأ عدد من أبناء الحارة يرممون منازل مهجورة ويحوّلونها إلى فنادق، منهم بيار غنيمة القادم من مجال المحاماة والمقاولات والزراعة. عام 2004، اشترى «خربة» كانت منزلاً متداعياً هجره أصحابه منذ عقود. آلية نيل التراخيص لإنشاء فندق من 24 غرفة أجّلت ترميمه، إلى أن وقع عدوان تموز ليؤجل المشروع برمته. استتباب الأمن جنوباً في السنوات الأخيرة وإقبال السياح على صور، دفعاه إلى تسريع تنفيذ مشروعه، حتى صارت الخربة فندق «أسامينا». يقول: «لا شغل يناسب صور غير السياحة». منذ شهرين، أقفلت الحجوزات في «أسامينا» والفنادق الثلاثة الأخرى، حتى أيلول المقبل.

عوامل عدة أدت إلى ازدهار السياحة في الحارة، أولها المبادرات الفردية. خلف باب أحمر، تتسارع ورشة ترميم منزل قرر ورثته المقيمون في بيروت تعديل تصميمه الداخلي لتحويله إلى فندق. في زقاق فرعي، انتهى العمل في منزل يملكه آل خير الله لتحويله إلى فندق أيضاً. فيليب خير الله الذي أمضى معظم عمره في الولايات المتحدة اشترى حصة إخوته من منزل أهله المهجور. لكن افتتاحه ينتظر التراخيص من الوزارات المعنية. قبله، استأجر رجل الأعمال جينو نادر قصر المباركة من آل صالحة ورمّمه لتحويله إلى مطعم قبل أن يقرر استخدامه منزلاً خاصاً. نادر استكمل مبادرته تجاه مسقط رأس جدته لوالدته. موّل طلاء واجهات بيوت الحارة بالألون الزاهية. بعده، توّجت مطرانية الكاثوليك الصورة بتعليق الزهور على الشبابيك والأبواب.

كثر من أبناء الحارة انخرطوا في الاستثمار السياحي كل على قدر إمكاناته. أمام منزلها، وضعت سيدة «طنجرة» مليئة بعرانيس الذرة المسلوقة، تنتظر الزوار كي تبيعهم. في ميناء الصيادين، توقف كثيرون عن الصيد وخصصوا مراكبهم للرحلات السياحية من الميناء إلى الزيرة، مروراً بواجهات المدينة البحرية، بعدما استحصلوا على تراخيص من مديرية النقل، وجهزوا زوارقهم بشروط السلامة العامة.

إقليم سياحي

في نيسان الفائت، سجل دخول ألفي سائح إلى موقع البص الأثري والقلعة البحرية في صور، نصفهم من الأجانب. المقارنة بأرقام الفترة نفسها من الأعوام الماضية تظهر تطوراً كبيراً. يردّ مسؤول المواقع الأثرية في صور علي بدوي، ذلك إلى شعور الزوار والسياح بالأمن المحلي، وتوافر الخدمات. هذه السياحة الثقافية تستكملها المدينة بأنواع أخرى من السياحة الترفيهية.
يلفت بدوي الى تحوّل جماعي في صور نحو الاقتصاد الترفيهي الذي ظهر جلياً في تحوّل وجهة عدد من المحال الصناعية إلى مقاهٍ ومطاعم: «الكل ذاهب نحو السياحة، سواء باستثمارات ضخمة أو عائلية صغيرة».
بحسب نائب رئيس البلدية صلاح صبراوي، زاد عدد المطاعم في شارع المطاعم عند الكورنيش البحري الجنوبي من 18 العام الماضي إلى 22 هذا العام، إضافة إلى مطعمين ضخمين قيد الإنشاء. احتفالية شارع المشاة التي تنظمها البلدية والهيئات المحلية نهاية كل أسبوع تستقطب مزيداً من الزوار. إذ يسمح لأصحاب المطاعم والمقاهي، بدءاً من المساء وحتى الفجر، باستخدام الأرصفة لوضع المزيد من الطاولات والكراسي. وفي منتصف الشارع الذي يمنع فيه مرور السيارات، تنظم أمسيات فنية وعروض للأطفال. بين الجمعة والأحد من كل أسبوع، تحصي البلدية دخول نحو 3500 سيارة إلى مواقف السيارات الخاصة بشاطئ الخيم البحرية عند الواجهة الجنوبية وشاطئ الجمل عند الواجهة الغربية، فيما كان العدد لا يتخطى 2500 في السنوات الماضية.
إضافة إلى شارع المشاة، تستعد البلدية لتنظيم مهرجان التزلج المائي مطلع أيلول المقبل بمشاركة أبطال أجانب، ومهرجان تصوير الآثار تحت الماء في آب المقبل. وعشية عيد السيدة منتصف الشهر المقبل، تعكف جمعية تجار صور على تنظيم مهرجان في ساحة الميناء بمشاركة الصيادين وأهالي الحارتين الشمالية والجنوبية.

خلال موسم الصيف، تحصل بلدية صور على موافقة من وزير الداخلية والبلديات على تعزيز عديد الشرطة البلدية ليصل إلى مئة عنصر. مهماتهم تتوزع بين تنظيم السير وتسيير الدوريات والإنقاذ البحري ومراقبة الشواطئ وتشغيل مواقف السيارات العمومية عند مداخل الشواطئ والأسواق. يشكل تعزيز الشرطة جزءاً من خطة البلدية لمواكبة الحركة السياحية المزدهرة التي تشهدها المدينة في السنوات الأخيرة.

يشدد بدوي على أن كل ذلك غير كاف. «نحتاج الى خطة نهوض لتأسيس إقليم سياحي» يمتد من صور إلى المحيط، وصولاً إلى أم العمد في الناقورة وقبر حيرام في حناويه ومقام النبي عمران في القليلة وقلاع تبنين وشمع ودير كيفا ومغارة قانا. وهو ما يستلزم إنشاء مسار متواصل في أنحاء المدينة يربط الحارات بالأسواق والمواقع الأثرية والشواطئ مروراً بالمؤسسات السياحية. وفي ذلك يدخل تأهيل الواجهات الخارجية للمباني وصيانة المواقع الأثرية وتشييد متحف صور واستحداث لوحات تعريفية للسياح.







استراحة صور: الذاكرة الجماعية للجنوبيين

لا يزال حفل زفاف مغترب صوري، أقيم في «استراحة صور» نهاية الشهر الماضي، حديث الناس. الشاطئ الرملي للاستراحة تحوّل إلى حوض سمك، في داخله سبح العرسان والمدعوون. اعتادت الاستراحة استضافة هذا النوع من الاحتفالات التي تعزز موقعها كأول فندق وصالة احتفالات في المنطقة. لكن «رست هاوس» لا ترتبط بمجموعة المؤسسات السياحية الرائدة أو بصيف الميسورين وأعراسهم والحفلات الغنائية في صور فحسب، بل لها حصة في الذاكرة الجماعية للجنوبيين منذ الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 حتى عدوان 2006.
عام 1969، شيدت الدولة اللبنانية، عبر المصلحة الوطنية للتعمير، ثلاثة مراكز سياحية في صور والعبودية وصيدا. استراحة صور تألفت من عشر غرف فندقية وبركة سباحة و«كابينات» لرواد البحر. الحرب الأهلية أوقفت العمل في الاستراحة التي تناوبت على شغلها فصائل مسلحة عدة. على نحو تدريجي، تداعت الإنشاءات. خلال اجتياح 1982 تمركز جيش الاحتلال فيها وحوّلها إلى مركز تحقيق وتوقيف. لاحقاً، تمركز فيها الجيش اللبناني واستخدمت إحدى باحاتها مهبط مروحيات عسكرية بين صور ومقر قوات الطوارئ في الناقورة. عام 1994، حصلت شركة الإنماء العقاري والمقاولات والتجارة على حق الاستثمار من الدولة. تشغيل «رست هاوس» انتقل لاحقاً إلى الأشقاء قاسم وعلي وماجد خليفة بعدما اشتروا، مع شركاء آخرين، أسهم الشركة. مدة الاستثمار حددت بداية بـ 25 عاماً، ثم مددت الى عام 2034. أضاف آل خليفة طبقة ثانية ليصبح عدد الغرف 66 واستحدثوا مطاعم وبرك سباحة ونادياً صحياً وصالة احتفالات (...).
التجربة الأصعب في تاريخ «رست هاوس» بعد الحرب الأهلية، كانت عدوان تموز عندما تحوّلت ملجأ يحتمي فيه النازحون من بلداتهم في طريقهم إلى المناطق الآمنة، ومركزاً لوسائل الإعلام.
خسارة فترة العدوان قدرها آل خليفة بحوالى نصف مليون دولار. لكن التداعيات امتدت إلى السنوات اللاحقة، وتسببت بخسائر أكبر. الخوف من تجدد الحرب والانكماش الاقتصادي أديا إلى تراجع حجم الحركة في الاستراحة. بحسب علي خليفة، تواجه السياحة الجنوبية تحديات مضاعفة عن سياحة المناطق الأخرى بسبب التحديات الأمنية ورسائل التحذير المتكررة للأجانب بعدم التوجه إلى الجنوب. يعطي مثالاً على ذلك السياح الأوروبيين الذين يمضون نهارهم في الاستراحة، لكنهم يعودون إلى بيروت للمبيت فيها.