«إنّه فنّان، أو أديب… فما دخله في السياسة؟». تلك الجملة، الساذجة ظاهريّاً، صارت على الموضة في السنوات الأخيرة. وليس من قبيل المصادفات أنها تستعمل غالباً في سياق أنسنة العدو الإسرائيلي، وشرعنة «التطبيع الثقافي» الذي هو «أرقى» أشكال الاستسلام.
سمعنا التعويذة الشريرة في لبنان، في معرض التبرير لسينمائي ذهب لتصوير فيلمه في «إسرائيل»، ثم دفاعاً عن كاتب أدلى بحوار «أدبي» إلى تلفزيون إسرائيلي. نسمعها حاليّاً في تونس، دفاعاً عن مشاركة ممثل فرنسي، تونسي الأصل، صهيوني شرس، في «مهرجانات قرطاج الدوليّة»… تلك المقولة القاتلة ـــ بالإذن من أنصار «الفن للفنّ» ـــ نتيجتها المباشرة تحييد المثقف من الصراع، بحجّة ألا دخل له في السياسة، أي تدجينه، وجعله شاهد زور على المقتلة العظيمة التي تطبع وجودنا نحن العرب. ومن نافل القول إن مئات الجمعيات غير الحكوميّة، ومؤسسات الانتاج والتوزيع و«الحوار» و«التبادل» الثقافي، ومراكز «التدريب» على النيو ميديا والاعلام البديل والكتابة والجندر و«التغيير» و«السلام» و«الحوار» و«الحوكمة» و… «المجتمع المدني»، ناهيك بعشرات المراكز الثقافيّة والسفارات الغربيّة، تشتغل في العالم العربي، بشكل منهجيّ مخيف، بهدف اختراق وعينا وتعطيل قدرتنا على المواجهة. إن الترويج للخطاب «اللاسياسي» خدعة عظمى، لتمرير أخطر المشاريع السياسيّة!
هنا نلتفت حولنا لنبحث عن سبل المقاومة، ونقاط الارتكاز في قلب الإعصار، فلا نجد أثبت من غسان كنفاني (١٩٣٦ - ١٩٧٢)! من كتاباته ومسيرته نغرف الترياق، وبها نتحصّن ضد فخاخ الاستسلام والاستلاب المختلفة. سيرة الكاتب والفنان والمربّي والصحافي والمناضل والقائد، نتخذها قدوة ومرجعاً. واليوم، في الذكرى الخامسة والأربعين لاغتياله على أبواب بيروت، نستعيد أمثولة أساسيّة قد تكون أثمن ما تركه لنا كنفاني. هذا المثقف الفلسطيني الذي اقتلع طفلاً من أرضه، وعاش بين الكويت وسوريا ولبنان، مناضلاً من أجل محو عار النكبة، واستعادة الحقوق المسلوبة، والعودة إلى فلسطين، يذكّرنا أن الخيار الوحيد المتاح اليوم أمام المبدع العربي، والمثقف العربي، والفرد العربي، هو الانخراط في المعركة. وأن كل استقالة، أو مهادنة، أو تعال، أو توفيق، أو تردد، أو تسويف، أو تهرّب، بحجّج واهية ـــ ليبرالية غالباً ـــ لا يمكن إلا أن يكون تواطؤاً مع القاتل.
عند الأب الشرعي للرواية الفلسطينيّة، لا نعود نعرف أيّهما يقود إلى الآخر: الأدب أم النضال؟ الثقافة أم المقاومة؟ من أدبه تخرج برّاقة تلك «المرتينة» الأسطوريّة التي اشتغل عليها جاد أبي خليل في فيلم مميّز عن كنفاني («ما تبقّى لنا - رسائل كنفاني»). إنّها قدرنا، طريقنا الوحيد إلى الحريّة. غسان كنفاني، المثقف العضوي نستحضره اليوم وكلّ يوم، ليدلّنا على الطريق إلى الحريّة. كان رائداً حتى في طريقة اغتياله… بعده بـ 15 عاماً، سيُسكت كاتم الصوت تلميذه ناجي العلي في لندن. غسان كنفاني «المثقف المشتبك» فهم أن الكفاح المسلّح هو الخيار الوحيد. تلامذته في «الأونروا» صاروا كلّهم فدائيين. اليوم، بعد 45 عاماً، نتيقّن من صوابية هذا الخيار، فيما وكلاء الاستعمار يدرّبون اللاجئين الصغار على «الحياديّة»، ويعملون على اقتلاع فكرة فلسطين من مناهج «الأونروا»! كلا ليس زمن التراجع، والاحباط، والتفتت، والاستسلام. وإذا كان المطلوب أن ندفع الأجيال الجديدة إلى اكتشاف كنفاني وقراءته، فمن واجبنا أيضاً أن ندعو المثقف العربي الى البحث عن «العروس» (مجموعة «عالم ليس لنا»، 1965)، عن «المرتينة» (البندقيّة) التي يحتاجها أكثر من أي وقت مضى لاستكمال مشروعه!
وأنتم، إذا وقع نظركم على «رجل طويل جداً، صلب جداً، لا أعرف اسمه، لكنه يلبس بدلة خاكية عتيقة، ويبدو لأول وهلة كأنه مجنون، محاط بشيء يشبه الغبار المضيء»، فاتركوا كلّ شيء واتبعوه… إنّه الفدائي غسان كنفاني في طريقه إلى فلسطين.