إحدى الصور القليلة التي نعرفها لغسان كنفاني، الصورة التي التقطها المصور الفرنسي برونو باربي عام 1970، للكاتب في مكتبه في «مجلة الهدف» في بيروت قبل عامين على اغتياله. صورة تمثل مادة بصرية هامة لتاريخ ومرحلة توهجت فيها الأفكار النبيلة وتوهج فيها اليسار قبل أن تسحقه الرأسمالية والإمبريالية الجديدة.
مكتب ممتلئ بالأوراق، نظيف ومرتب مع بعض الفوضى، غسان على الكرسي بقميص زهري وابتسامة خجولة نحو الكاميرا التي يبدو أنها فاجأته. أمامه أوراق، فنجان قهوة، منفضة سجائر ورزنامة، على يمينه حاملة أقلام ومزهرية تظهر فيها وردة أو اثنتان، وعلى الحائط خلف المكتب تتوزع الصور والملصقات.
نُكبر الصورة الضعيفة أصلاً. من الشمال ملصق لماوتسي تونغ، يليه آخر لكارل ماركس، وآخر للينين. تزحف الصور والملصقات الى الحائط المجاور خلف المكتب مباشرة، نجد هو تشي منه، يليه ملصق ضخم ـ الأكبر بين كل الملصقات ـ لتشي غيفارا، أسفله ملصق من تصميم كنفاني نفسه تظهر فيه امرأة بلباس فلسطيني تضم بندقية على شكل خارطة فلسطين، يليه خارطة كبيرة لفلسطين وخرائط تفصيلية أخرى، ملصق للسويسري مارك رودن الذي عُرف أيام النضال باسم «جهاد منصور» (نعم كانت المقاومة الفلسطينية تستقطب المناضلين من كل العالم)، على يمينه ملصق للفنان اللبناني رفيق شرف يظهر فيه قرص شمس وكلاشينكوف كخلفية لرأس حصان وعبارة: «لتنطلق الثورة بالسلاح والفكر إلى آفاق التحرر والاشتراكية»، وعلى شماله صورة لـ «الحكيم» جورج حبش مبتسماً، ملصق آخر لـ «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» من تصميمه، ومجموعة ملصقات صغيرة شعار (جشـ) هنا وهناك. حائط يبدو أن الكاتب اعتنى به جيداً كأنه كان يقول كل تلك الأفكار والوجوه تسندني.
اليوم وبعد 47 عاماً على تاريخ أخذ هذه الصورة، ها نحن ننظر إليها مجدداً من على شاشة الكمبيوتر، كما نفعل في كل ثامن من تموز (يوليو) كل عام، ننظر إلى حائط كنفاني اليوم ونتساءل بمرارة: ماذا تبقى منه؟ ماوتسي تونغ، ماركس، لينن، هو تشي منه. بعد شيطنتهم تحولوا إلى كتب منسية على رفوف المكتبات، لكن في الحقيقة تشي غيفارا ـ بقدرة الرأسمالية ـ ما زال موضة، نجد صوره اليوم على تي شرتات لمراهقين يلتهمون «الهامبرغر» في «ماكدونالدز»، ويشربون القهوة في «ستاربكس». الخريطة الكبيرة لفلسطين استبدلتها جماعة السلطة بخرائط لمناطق (أ، ب، ج)، «الحكيم» رحل بجلطة في ليلة شتاء قارسة في عمان؛ بعد أيام من محاولة أهل غزة كسر الحصار المصري وهدم أسوار العريش التي تكمل أسوار الاحتلال. مارك رودن بعد أن وضع ريشته جانباً وحمل السلاح يدافع عن بيروت وقت الاجتياح؛ أُلقي القبض عليه لاحقاً، عُذب وسُجن وخانه فلسطينيون. رفيق شرف رحل في بيروت مكتئباً بعدما عاد بريشته محبطاً إلى الطبيعة والتراث. أما حرفا (جشـ) المنتشرتان على الحائط، فتحولت كتائبهما اليوم إلى كتائب «بروبوزال».
ننظر إلى الحائط مرة أخرى؛ ونفكر بجزع كيف تحول الحائط في راهننا إلى مجرد فكرة «انتيليكشوال» تُعلك في المقاهي والبارات، نأخذ مسافة أبعد قليلاً وننظر إلى «يسار» العالم الذي استبدل خطاب التحرر ومحاربة الرأسمالية والإمبريالية الجديدة ليكتفي بخطاب الحفاظ على البيئة. نعود إلى عيني كنفاني في الصورة إياها وتقفز في البال أسئلة كثيرة عن المثقف والمقاومة؛ جالبة معها عشرات الأسماء لشعراء وفنانين وكتاب وسينمائيين ارتبطوا بالمرحلة، كتبوا وانخرطوا (ولو ظاهرياً) في المقاومة في وقت تعاملوا معها كموضة ركبوا موجتها، قبل أن يتحولوا إلى تقليعة أخرى في الراهن البائس اليوم... موضة «فصل الفن عن السياسة» و«الفن للفن» و«ثقافة التسامح والحوار».
ما الذي تبقى من حائط كنفاني غير الأفكار؟ ولكن هل الأفكار وحدها تكفي؟ كنفاني نفسه تحول إلى كتابة موسمية (ربما كما نفعل الآن)، في وقت ما زال فيه التاريخ يعطينا دروساً أن الإيمان وحده لا يكفي، ولا يسمن ولا يغني من جوع.
قبل أيام وبالتزامن مع ذكرى رحيل كنفاني، تعتقل سلطة رام الله مصوراً فلسطينياً قام بتصوير «دولة رئيس الوزراء» عندما تم ايقافه وحرسه بمهانة وإذلال؛ لتفتيشهم على حاجز اسرائيلي من قبل جنود احتلال مراهقين. كنفاني الذي أمضى حياته يتخيل.. هل كان من الممكن أن يتخيل هذا!؟ أي سريالية!