لا أعرف من شيطن، للمرة الأولى، مفهوم الانصهار الوطني بزعم أنّه عمليةٌ تحدث بين المعادن المختلفة رغم أنف الطبيعة وبواسطة التذويب والنار... وأن هذه العملية غير مخصّصة للبشر الذين لا يمكن تذويبهم بالقوة والقضاء على تنوعهم.
واضح أن من يتحدّث عن "كليشيه" انصهار المعادن لا يعرف خصائص المعادن، وأنّ المعادن المنصهرة يصبح لديها ميزات أفضل وأرقى من حالها البكر: فبعد إضافة الذهب إلى النحاس، يصبح هذا الأخير أكثر لمعاناً وبريقاً، وبعد إضافة الزنك إليه يصبح أكثر صلابةً.
وانضمّت مؤسسة أديان (مؤسسة غير حكومية تشارك في صياغة مناهج التربية الوطنية والفلسفة ومشروع خدمة المجتمع) إلى قافلة الذين شيطنوا مفهوم الانصهار، علماً بأن الولايات المتحدة الأميركية ذاتها، وهي أحد مصادر تمويل مشاريع المؤسسة، تنظر إلى مدارسها على أنها الإناء الصاهر Melting pot (أي صهر الأفكار في بوتقة الأمركة وقيم الديمقراطية بمعزل عن التنوع الإثني والقومي والديني والثقافي). فكيف يكون الانصهار مقبولاً في الولايات المتحدة و«مشيطناً» إلى هذا الحدّ في لبنان!؟ ولأية غايات!؟
الانصهار لا يلغي التعدّدية والاختلاف ولكنّه يحقق عناصر الوحدة الضرورية التي تجنّب التعدّدية أن تنقلب إلى نزعات للتفتيت وأسباب للتباعد. وفيه تحدّ واستدامة وفيه نبذ للتقوقع والانعزال وللتصنيف على أساس الانتماء الديني.
وما ورود الانصهار في وثيقة الوفاق الوطني سوى لكون المواطنية غير مستقرّة لدى اللّبنانيين، وعناصر وحدتهم غير مكتملة، بل الحس الوطني الجماعي مفقود بالكامل لحساب الانتماءات المناطقية والطائفية والحزبية. وعلاقة المواطنين بالدولة ليست علاقة حقوق وواجبات بل تمرّ عبر الجماعات والطوائف.
بلا وحدة وطنية وانصهار اجتماعي، تُفرز التعدّدية شياطينها من خلال إيثار الشعور بالخصوصيّة المفرطة تجاه الآخر، أي الغيرية، لا سيما على قاعدة الانتماءات الدينية والثقافية للأفراد: في التربية الوطنية، وفي التعليم الديني من خلال ربط حياة الأفراد بإرث الجماعات الدينية التي ينتمون إليها. وهذا ما دأبت مؤسسة أديان على الترويج له في وزارة التربية كما في المركز التربوي، مع العلم أن المواطنة كمنظومة مدنية مستقلّة تماماً عن النظرة الدينية إليها، وتنفصل عنها كما ينفصل الزيت عن الماء، ليس بهدف التضاد بل لأنه أصبح بمثابة الكفر والتجديف بنظر المؤمن الأكثر حمية بيننا أن يتم حشر الدين في الترتيب الذي يجمعنا وفي القلاقل التي تفرّقنا، بحسب ما يقول مارسيل غوشيه. ويبدو أن ارتهان قضايا التربية ومقارباتها لمشروع مؤسسة أديان سيطال أيضاً المواضيع التاريخية بشكلٍ مريب، فهل يستوي من قاوم الاحتلال الإسرائيلي ومن تعاون معه، من زاوية التسويق للتعدّدية وما ينتج عنها من اختلافٍ في الرأي وتفهّم للمواقف المتباينة؟ وهل هذه نظرة السلطة السياسية القائمة التي تريد أن تروّج لها المناهج الجديدة؟
ومن الشياطين التي استدعاها مشروع التعدّدية هذا الذي تنادي عليه مؤسسة أديان، ما ظهر في القرار 607/م/2016 الذي يُسقط ربط ثقافة خدمة المجتمع بتعزيز «التماسك الاجتماعي والانصهار الوطني» كما ورد سابقاً في القرار 4/م/2013، حيث غابت هذه العبارة كليّاً في القرار الأخير وحلّت محلّها عبارة «المواطنة التشاركية والمبادرة المسؤولة»... مع العلم أن وثيقة الوفاق الوطني تربط التطوير التربوي بتعزيز «الانتماء والانصهار الوطنيين» بالتحديد. في حين تعتبر مؤسسة أديان أن الانصهار «خطرٌ» وبأنّه يقوم «على أساس ذوبان الجميع في بوتقة واحدة». ومع هذا التخطي لوثيقة الوفاق، تغلغلت هذه المشاريع وفق أجندة أديان الخاصة، إلى أروقة مؤسسات القرار التربوي «بالمفرّق»، وسط انطباع عامٍ يوحي بعدم وجود رؤية واضحة لدى الفاعلين التربويين، لا سيما إزاء القضايا التربوية الهامة والشائكة في آن، كمسألة التعليم الديني في المدرسة وكتاب التاريخ الموحّد.
شيطنة الانصهار هي لشرعنة الاختلاف والتمايز إلى الدرجة التي تُبقي الدولة الوطنية هشة البناء، مقيّدة الأواصر، فتقوى الكيانات الطائفية وكلّ منها يحسب نفسه دولة، وتخلو الطوائف الدينية إلى شياطين مشاريعها الخاصة، كلما سنحت لها الظروف الخارجية أو الداخلية.
خلاصة مشكلتي مع أديان هي الآتية: أودّ النظر إلى مجتمعنا كمجموع مواطنين أفراد يتمتّعون بحقوق متساوية، بينما تنظر مؤسسة أديان إلى مجتمعنا على أنه، كما اسم المؤسسة، مجموعة أديان وطوائف لكلّ منها خصوصياتها... فهل هذه مشكلتي وحدي، أم هي مسؤولية من في سدّة القرار في الوزارة ومديرياتها والمركز وهيئاته ولجانه وجميع الفاعلين التربويين... أفلا يتنبّهون؟

*أستاذ التربية على المواطنية في كلية التربية ـ الجامعة اللبنانية